فنُّ الإدارة وأنماط الغباء الإداريِّ..دراسةٌ موضوعيةٌ في ضوء واقع الإدارة في العراق –الجزء الأول ( 1-3 )

آخر تحديث 2019-08-21 00:00:00 - المصدر: نون

د.حسن الياسري

معلومٌ لدى المتخصصين أنّ الإدارة عمليةٌ منظمةٌ ترمي إلى تحقيق الأهداف بطريقةٍ فعالةٍ وكفوءةٍ، وتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، وتوجيهها وتنسيقها ؛ وصولاً لتحقيق أعلى مستوىً من الجودة.

وللإدارة وظائف متعددةٌ تتمثل بالتخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة. وهي بلا ريبٍ علمٌ وفنٌ، فهي من جهةٍ علمٌ لأنها تعتمد الأساليب العلمية، وتسعى لتحقيق أهدافها عبر مجموعةٍ من النظريات والدراسات العلمية المنهجية والقواعد التي تحكم العملية الإدارية. وهي من جهةٍ أخرى فنٌ ؛ لأنها تهتم بتطبيق تلك النظريات والدراسات العلمية والقواعد، وهي تتعامل بالمحصِّلة مع الإنسان والمجتمع ؛ ما يجعلها تستلزم خبرةً وبراعةً وإبداعاً.

إنّ الإداري الناجح هو الذي يعتمد النظريات والدراسات العلمية الإدارية من جهةٍ، كما يركن إلى خبرته العملية وقابليته الفكرية من جهةٍ أخرى، وليس بوسعه، إنْ رام النجاح، الاكتفاء بجهةٍ دون أخرى، أي لا ينبغي له الاكتفاء بالإطار النظري دون العملي، ولا بالعملي دون النظري ؛ لأنّ أحدهما يكمل الآخر.

إنّ مَنْ يزاول الإدارة، وهو المسمى في أدبيات الإدارة بــ (المدير)، أو كما أُسميّه بــ (الرئيس الإداري)، وبصرف النظر عن مدى سلطته في الهرم الوظيفي، رئيساً أو وزيراً أو وكيلاً أو مديراً عاماً، ينبغي أنْ يكون قادراً على تحقيق أهداف الإدارة عبر الإجراءات الشكلية والموضوعية التي يقوم بها على مرؤوسيه. ولا يخفى أنّ الإدارة تُعدُّ من أصعب الأمور وأكثرها حاجةً للحكمة والصبر والجهد العقلي ؛ فالمدير الناجح هو المسؤول الأول والأخير عن نجاح أو فشل العمل في مؤسسته.

مهارات المدير (الرئيس الإداري):

وبلا ريبٍ لن يكون المدير قادراً على تحقيق أهداف الإدارة ما لم يتحلَّ بأصنافٍ أربعةٍ من السمات والمهارات:

1- المهارات الشخصية:

وتتمثل بالثقة بالنفس والمصداقية وعدم التردد والإخلاص في العمل وتحمل المسؤولية والقدرة على جذب الآخرين والتأثير فيهم، فهو قدوةٌ لمرؤوسيه.

2- المهارات الإنسانية:

وتتمثل بقدرته على التعامل مع الآخرين، مرؤوسين كانوا أو رؤوساء أو زملاء، والقدرة على تحفيز المرؤوسين على العمل وكسب ثقتهم.

3- المهارات الفنية:

وتتمثل بمعرفته التخصصية بمجال العمل الذي يزاوله، والقدرة على استخدام الوسائل المتاحة وصولاً إلى تحقيق الأهداف المنشودة.

4- المهارات الفكرية والعقلية:

وتتمثل بقدرته على التفكير والتحليل العلمي لمواجهة المشكلات، وإيجاد الحلول العلمية المناسبة بما يمنع تكرار وقوعها في المستقبل ؛ فهو واسع الأفق وذو ثقافةٍ متعددة الاتجاهات.

من هنا ينبغي أنْ تتوفر هذه المؤهلات في مَنْ يتم اختيارهم للمواقع الإدارية، بيد أنّ الواقع لدينا شئٌ آخر ؛ إذْ لم يتم مراعاة هذه المهارات والمتطلبات العلمية فيما مضى، إلاّ في بعض الحالات النادرة!!

خصائص المجتمع المتطور إدارياً:

إنّ الإدارة الناجحة تحتاج أرضيةً ناضجةً، وتتمثل هذه الأرضية بالمجتمع الناضج إدارياً، فالمجتمع الناضج يمثِّل أرضاً خصبةً للإدارة الناجحة، وكي يكون المجتمع ناضجاً ومتطوراً إدارياً ينبغي أنْ يتمتع ببعض الخصائص التي تميزه من غيره من المجتمعات التي تعدُّ متأخرةً في الواقع الإداري، ومن أهم هذه الخصائص بإيجازٍ شديد:

احترام الوقت – احترام الآخر – التسامح – المنافسة المشروعة والعادلة في ميدان العمل – التفسير الموضوعي للأمور – تكافؤ الفرص - الاستقرار السياسي - وأهم هذه الخصائص بتقديري وضع الرجل المناسب في المكان المناسب والنزاهة.

فإذا أردتَ مجتمعاً متطوراً في الإدارة وجدتَ فيه هذه الخصائص، وعند عدمها ستجد مجتمعاً متأخراً إدارياً. ولا يكاد يختلف معي اثنان أنّ معظم هذه الخصائص ليست متحققةً لدينا ؛ وهو ما يغنيني عن كثيرٍ من الحديث والتعليق!!

المدير والقائد:

إنَّ الإدارة الناجحة على مستوى الدولة لا تسعى لإيجاد المدراء (الرؤوساء الإداريين) الناجحين فحسب، بل لإيجاد وتنشئة القادة الإداريين المتميزين. وبصرف النظر عن الفروق المنهجية بين المدير والقائد - إدارياً -، فإنّ صفوة القول في ذلك تتمثل بأنّ المدير هو الذي يدير العمل المكلف به، أمّا القائد فهو الذي يبدع ويجدد ويتميز في أي عملٍ يوكل إليه، مع شخصيته البارزة وثقته بنفسه وخبرته.

فإذا كان المدير يحمل مرؤوسيه على الأداء والعمل بالاعتماد على مجموعةٍ من الإجراءات التي رسمتها الإدارة العليا، ولا يكاد نظرهُ يتجاوز محيط العمل، فإنّ القائد الإداري هو الذي يهتم بالتأثير في المرؤوسين، ويتعامل بحكمةٍ، ويواكب التغييرات التي تطرأ، ويسعى دائماً للتغيير نحو الأحسن بخبرته وإبداعه.

وليس بخافٍ على أحدٍ أنّ واقعنا الإداري يفتقر غالباً إلى القادة الإداريين - بالوصف المتقدم -، ولا يوجد منهم إلاّ النزر اليسير من الذين يعتمدون على خبراتهم الشخصية، بل أكثر من ذلك أنّ وجود المدير – بحسب الوصف المتقدم – لا يكاد يمثل إلاّ القلَّة القليلة، وما عدا ذلك لا يعدو عن أفرادٍ كُلِّفوا بالعمل الإداري، ممّن قد لا يتحلّون بالشروط المطلوبة على وفق ما خلا بيانه، دون أنْ نعمم ذلك على الجميع.

ومع كل التقدير للشخصيات الإدارية المتميزة في هذا البلد، ولجهودها الكبيرة ؛ فإنّ الواقع الإداري في العراق لا يعدُّ أنموذجاً مثالياً، بل لا يمثل مستوىً مقبولاً على وفق المعايير المألوفة في فقه الإدارة. وليس ذلك بالأمر الجديد أو الطارئ، بل هو قديمٌ أسّسه وأرسى دعائمه النظام الدكتاتوري البائد حينما جعل الإدارة بمستوياتها كافةً حكراً على أزلامه وأفراد حزبه، من الذين تبوؤوا المواقع الإدارية المتقدمة لا لشئٍ إلاّ لكونهم أزلاماً لذلك النظام ولأمورٍ أخرى طائفيةٍ وقوميةٍ معروفة للجميع، ولم يكونوا يتمتعون بالمعايير الإدارية المطلوبة. نعم هذا لا يمنع من وجود بعض الشخصيات الإدارية القليلة التي استطاعت ولوج الإدارة اعتماداً على كفايتها الإدارية الشخصية، وهؤلاء هم الذين كانوا يضعون بعض اللمسات الإدارية على واقعٍ اصطبغ بصبغة الدكتاتورية والتخلف والغباء الإداري، الذي كان واضحاً للعيان، ولا سيما في المؤسسات الخدمية. ولعلكم لم تنسوا بعدُ (بدعة الغباء) المعروفة بــ (المستمسكات الصدامية الأربعة) وعلى رأسها البطاقة التموينية التي ربطوا كل شئٍ في العراق بها، إدارياً كان أو غير ذلك، وقد كان المواطن مجبراً على تقديم هذه المستمسكات في كل مراجعةٍ لأية مؤسسةٍ حكوميةٍ مهما كانت، حتى غدت هذه الممارسة نمطاً بارزاً من أنماط الغباء في تلك الحقبة.

وللأسف الشديد استمرت هذه المعاناة بعد عام 2003، ولم يتحسن الأمر كما كان الجميع يأمل ذلك، بل ازداد سوءاً في بعض المفاصل، ولم يُهتم لتوفر المعايير الإدارية في مَنْ يتبوؤون موقعاً إدارياً، ولا سيما بعد زيادة عدد الموظفين إلى زهاء أربعة أضعافٍ عمّا كان الحال عليه قبل عام 2003، ومعلومٌ أنّ معظم هذه الزيادة كانت بلا تخطيطٍ ولا منهجٍ ولا مراعاةٍ للمعايير الإدارية المألوفة، الأمر الذي زاد الطين بلةً، فلئن كنا نعاني من غباء وسوء تصرف بعض الملاكات الإدارية في الوقت الذي كان عددهم محدوداً، فكيف يكون الحال مع هذه الزيادة الهائلة بلا تخطيطٍ ؛ إذْ غدا الواقع الإداري والإدارة في العراق بمستوياتها المتعددة - وبصراحةٍ شديدةٍ - تعاني في بعض مناحيها من استشراء ما يمكن أنْ أُسميه بلا مبالغةٍ بــ (الغباء الإداري).

ولكي لا يكون كلامي نظرياً مجرداً، سأذكر جملةً من أنماط الغباء الإداري، السائدة والمتفشية في الوسط الإداري لدينا. وهو ما سيكون محلاً للبحث والتحليل في الجزء الثاني من هذه الدراسة إنْ شاء الله.