جميل عودة
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
التمييـز هـو كل مـا يـؤدي إلـى اللامسـاواة فـي المعاملـة، وفـي الاعتبار، تجاه أفـراد اختلفت خصائصهم أو صفاتهـم، فيصبحـون نتيجـة هـذه الخصائـص، أو هـذه الصفـات أقـل مسـتوى، أو شـأنًا، أو قـدرةً. وتمنــح ممارســات التمييــز فــي الواقــع المعــاش حقوقًــا لفئـة علـى حسـاب أخـرى، تُسـلب منهـا حقوقهـا الطبيعيـة والاجتماعية.
وقد نصــت الشــرعة الدوليــة لحقـوق الإنسان فــي الفقــرة (3) مــن الميثــاق، علـى المسـاواة بيـن الجنسـين. وأكـدت علـى (الإيمان بالحقـوق الأساسية للإنسان، وبكرامــة الفـرد وقدرتـه، وبمـا للرجال والنسـاء مـن حقـوق متسـاوية) ومــن ثــم أعيــد التأكيــد فيهــا، علــى أن كل إنســان يتمتــع بجميــع الحقــوق والحريــات دونمــا تمييــز مــن أي نــوع كان، لاســيما التمييــز بســبب الجنــس أو الديــن، ودونمــا تفرقــة بيــن الرجــال والنســاء.
لــم يجــر التعامــل فــي البــدء، ضمــن الشــرعة الدوليــة لحقــوق الإنسان، مــع مفهــوم التمييــز بيــن الرجــالً والنسـاء باعتبـاره موضوعًـا قائمـا بذاتـه، بل صنف كشـكل مـن أشـكال ممارسـة التمييـز فـي المجتمعـات الإنسانية، وكموضــوع مــن المواضيــع التــي تتــم إثارتهــا خلال المؤتمـرات التـي أولـت اهتمامًـا خاصـا بموضـوع المـرأة. ولــم يتحــول التمييــز إلــى موضــوع وهــدف قائــم بذاتــه إلا مـع اتفاقيـة القضـاء علـى جميـع أشـكال التمييـز ضـد المـرأة التـي أقرتهـا الجمعيـة العامـة عـام 1979(سـيداو) والتـي دخلـت حيـز التنفيـذ عـام 1981.
تُعرف المادة (1) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز بحق المرأة، التمييز بأنه (أي تفرقة أو استبعاد او تقييم، يتم على أساس الجنس، ويكون من آثاره أو أغراضه، توهين أو إحباط الاعتراف للمرأة بحقوق الإنسان والحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية، أو في أي ميدان آخر، أو توهين أو إحباط تمتعها بهذه الحقوق أو ممارستها لها، بصرف النظر عن حالتها الزوجية، وعلى أساس المساواة بينها وبين الرجل)
هناك نوعان من التمييز بحق المرأة، وهما: التمييز المباشر؛ وهو التمييز الذي يحدث عندما يكون اختلاف المعاملة قائماً بصورة مباشرة وصريحة على أوجه تمييز، تقوم حصراً على أساس نوع الجنس والخصائص المميزة للرجال أو النساء التي لا يمكن تبريرها بشكل موضوعي. والتمييز غير المباشر؛ وهو التمييز الذي يحدث عندما لا يبدو القانون أو السياسة أو البرنامج تمييزياً، ولكن يكون لـه -مع ذلك-تأثير تميـيزي عند تنفيذه. ويمكن أن يحدث ذلك، على سبيل المثال، عندما تكون المرأة مستضعفة مقارنة بالرجل فيما يـتعلق باغتنام فرصة أو التمتع بمنفعة محددة، وذلك بسبب عدم المساواة الموجودة أصل.
وكذلك هناك العديد من النساء اللاتي يعانين من أشكال متميزة من التمييز، بسبب تداخل نوع الجنس مع عوامل مثل العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، أو الآراء السياسية وغيرها، أو الأصل القومي، أو الاجتماعي، أو التملك، أو المولد، أو غير ذلك، مـن الحالات مثل السن، أو الانتماء الاثني، أو الإعاقة، أو الحالة العائلية، أو مركز المهاجر أو اللاجئ…
وفي الواقع، إن التمييــز القائم على أساس النوع الاجتماعي، أي التمييز بحق المرأة، هــو موضــوع اجتماعــي قائم على أساس نظرة المجتمع ككل، والرجل تحديدا، إلى المرأة ودورها في الحياة، وهي في غالبيتها نظرة دونية تقلل من شأن المرأة ووظيفتها الإنسانية والمجتمعية. وقد نتج عن هذه النظرة سلوكيات اجتماعية، ترسخت مع الأجيال المتعاقبة، حتى أضحت كأنها الأصل، وغيرها هي فروع.
مثل إهانة المرأة، وتعنيفها وضربها، ومنعها حقوقها الإنسانية والاسرية والاجتماعية، كحقها في المعاملة المتساوية مع الرجال، وحقها في التعليم، وحقها في الصحة، وحقها في الرأي، وحقها في العمل، وحقه في اختيار أو رفض شريك حياتها، أو قبول ورفض الزواج بمحض إرادتها، وسائر الحقوق الممنوحة لها كإنسان أو كامرأة.
وقد ترجمت هذه النظرة الدونية للمرأة، وهذا السلوك اللاإنساني إلى تشريعات وقوانين ونصوص واجراءات تغمط حقوق المرأة، وتصعب الحصول عليها، كقوانيــن الأحوال الشــخصية، والجنسـية، والعقوبـات، والضمـان الاجتماعي، والعمــل، والمحاكمــات المدنيــة، وقوانيــن التجــارة وغيرها…
إن المساواة بين الرجل والمرأة في حق التمتع بجميع حقوق الإنسان هو من المبادئ الأساسية المعترف بها بموجب القانون الدولي، وتنص عليها الصكوك الدولية الأساسية لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصـادية والاجتماعـية والثقافية يحمي حقوق الإنسان الأساسية لكرامة كل إنسان.
حيث تنص المادة (٣) من هذا العهد، على وجه الخصوص، على المساواة بين الرجل والمرأة في حق التمتع بالحقوق الواردة في العهد. كما تنص الفقـرة (٢) من المادة (٢) من العهد أيضا على كفالة عدم التمييز لأسباب من بينها نوع الجنس. وعلاوة على ذلك، فإن القضاء على التمييز يعد أساسياً من أجل التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على أساس المساواة.
ويرتبط مفهوم المساواة الذي يفضي بان البشر كافة سواسية في التمتع بكل حقوق الانسان ارتباطا وثيقا بمبدأ عدم التمييز، وتعني المساواة بين الجنسين أنه لابد أن يساوى الرجال والنساء في التمتع بكل حقوق الانسان، وتنطوي المساواة على جانبين مختلفين: المساواة في الواقع والمساواة في القانون. وتقر دساتير عديدة بالمساواة بين الرجل والمرأة في القانون، وأما في الواقع العملي، فأن المسألة مختلفة تماما إذ قلما تعامل المرأة على قدم المساواة مع الرجل.
في الواقع؛ هناك مشكلة أزلية في فهم دور كل من الرجل والمرأة في هذه الحياة، وهذا الفهم، وإن كان يختلف من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، ومن حاضرة إلى حاضرة، إلا أنه في جوهره هو فهم واحد، وهو نظرة الرجل بل المرأة نفسها إلى المرأة على أنها عامل مساعد للرجل في الحياة، لا شريك معه يتقاسم أعباء الحياة، على أساس قدرة كل منهما، ووظيفة كل منهما، تلك الوظيفة التي خلقها الله في تكوينهما النفسي والجسدي،وقد انعكست هذه النظرة على كل القوانين والأنظمة والممارسات الحياتية، بل حتى لفهمنا للدين والشرائع السماوية التي ترفعت أساسا عن النظرة الدونية للمرأة، بل هي جاءت لتعدل نظرتنا للمرأة ودورها الرسالي في الحياة، ولكننا أبينا ذلك، وتحدينا الشارع المقدس، وجعلنا نصوصه تنزل إلى حد فهمنا للمرأة، وإلى حد ما تريده أن تكون علاقتنا مع المرأة.
لقد أقر الإسلام- بغض النظر عن الاجتهادات الفقهية هنا وهناك- مبدأ وحدة الجنس البشري، وأن الاختلاف بين البشر، سواء في الأرزاق أو مصادر الدخل أو الأعمار أو الألوان أو الأعراق أو الحقوق أو الواجبات، إنما يهدف إلى إعمار الكون في إطار من التعايش والتعاون والتكامل، وهو ما يتضح بلا لبس أو شك في العديد من الآيات القرآنية الكريمة، كقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).
وإن الله عز وجل عدّد مواطن المساواة بين الرجل والمرأة في القرآن الكريم، حيث ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية، بل خص المرأة في بعض المواطن بالرعاية والعناية، فقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ…)
وفي إعلان المساواة في القيمة الإنسانية وشؤون المسؤولية الجزائية في الدنيا والآخرة يقول تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ويقول أيضاً: (… لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ…).
كما ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية، فللمرأة حقها في التملك والتعاقد والاحتفاظ باسمها واسم أسرتها وغيرها من الحقوق. وإن المرأة كالرجل في أصل التكاليف الشرعية، ومن حيث الثواب والعقاب والجزاء على العمل في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ…)،
والمرأة مشمولة بالنصوص الآمرة بأداء فرائض الإسلام وأركانه، كالأمر بأداء الصلاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله تعالى، وأيضاً بالنصوص الناهية، كالنهي عن الزنى والسرقة، يقول سبحانه: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)،.
وقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية بمختلف أنواعها، لا فرق في ذلك بين وضعها قبل الزواج وبعده. فقبل الزواج يكون للمرأة شخصيتها المدنية المستقلة عن شخصية ولي أمرها، فإن كانت بالغة يحق لها أن تتعاقد وتتحمل الالتزامات، وتملك العقار والمنقول، وتتصرف فيما تملك، ولا يحق لوليها أن يتصرف في أملاكها إلا بإذنها، كما يحق لها أن توكل وأن تفسخ الوكالة، فالإسلام جعل للمرأة الحق في مباشرة العقود المدنية من بيع وشراء، وأباح لها أن تضمن غيرها، وأن يضمنها غيرها.
وبعد الزواج يكون للمرأة شخصيتها المدنية الكاملة، فلا تفقد اسمها ولا أهليتها في التعاقد، ولا حقها في التملك، فتحتفظ باسمها واسم أسرتها، وبكامل حقوقها المدنية، وبأهليتها في تحمل الالتزامات، وإجراء مختلف العقود من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية وما إلى ذلك، محتفظة بحقها في التملك تملكاً مستقلاً عن غيرها، فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة وثروتها الخاصة وذمتها المالية، وهي في هذا كله مستقلة عن شخصية زوجها وثروته وذمته.
ليس هذا وحسب، بل منح الإسلام ما يعرف اليوم بالتمييز الإيجابي للمرأة كما في أمر الأعباء المالية، فكفل لها من أسباب الرزق ما يصونها عن التبذل، ويحميها من عناء الكدح في الحياة فأعفاها من كافة أعباء المعيشة، وألقاها على كاهل الرجل. فما دامت المرأة غير متزوجة فنفقتها واجبة على أصولها أو أقاربها الوارثين لها، فإن لم يكن لها قريب قادر على الإنفاق عليها، فنفقتها واجبة على بيت المال.
وعند الزواج أعفيت المرأة من أعباء المعيشة حيث يلتزم الزوج بنفقتها، دون أن تكلف أي عبء في نفقات الأسرة مهما كانت موسرة إلا برضاها وطيب نفس منها، وإذا انفصل الزوجان يتحمل الزوج وحده جميع الآثار المالية الناتجة عن ذلك فعليه مؤخر صداق زوجته، وعليه نفقتها ما دامت في العدة، وعليه نفقة أولاده وأجور حضانتهم ورضاعتهم، وعليه نفقات تربيتهم بعد ذلك.
وفي المحصلة، ويمكن القول ما يأتي:
- إن للمرأة حقوقاً وعليها واجبات، وكذا الرجل، والتكامل بينهما يؤدي إلى استقرار مجتمعي، يثمر علاقة منتجة، وجيلاً واعياً محافظاً على قيم الأسرة المطمئنة وأخلاقياتها.
- إن الإسلام حرص على عدم التمييز بين الرجل والمرأة، ولم يفضل جنساً على حساب آخر، حيث جعل لكل منهما حقوقاً وواجبات مع مراعاة الاختلافات الجسدية والنفسية والاجتماعية بين الرجل والمرأة، ولا فضل لأحدهما على الآخر بسبب عنصره الإنساني وخلقه الأول، فالناس جميعاً ينحدرون من أب واحد وأم واحدة، ويقرر الإسلام أن جنس الرجال وجنس النساء من جوهر واحد وعنصر واحد وهو التراب.
- إن تعليم النسـاء والفتيـات أداة قوية لتمكين النسـاء والفتيات في أسـرهن ومجتمعاتهـن، ويعتبر مسـاراً رئيسياً للعمل والكسـب. وهي أوفر حظاً في الاستفادة من خدمات تنظيم الأسرة وخدمات الرعاية الصحية؛ لأنها تعرف حقوقها وتشعر بثقة في نفسها تؤهلها لممارسة هذه الحقوق. وإذا لم تتمكن الفتاة من الذهاب إلى المدرسـة، ولم تحصـل على حظها من التعليـم، فهذا قد يقضي علـى إمكانيـة حصولها على عمـل في المسـتقبل.
- إن المساواة في الحصول على خدمات الرعاية الصحية، والخدمات المتعلّقة بتنظيم الأسرة والخدمات اللازمة للولادة والتغذية والحمل خلال فترة الرضاعة والحمل أمر لازم ليس لصحة المرأة نفسها بل لصحة المجتمع ككل.
- إن المساواة في العمل والحقوق المتعلقة بالعمل هو عامل أساسي من عوامل التي تحد من التمييز ضد المرأة، من خلال ضمان الحقوق المتساوية في فرص العمل، وضمان حرية اختيار المهنة، وحق التدريب، وضمان حق المساواة في الأجر، وضمان الحقوق المتساوية في المرض، والتقاعد، والشيخوخة، ومنع فصلها بسبب الحمل، أو الزواج، وإعطائها إجازة أمومة مدفوعة الأجر، وتوفير مرافق العناية بالأطفال وغيرها.
- إن تمكين المرأة سياسيا من حيث مشاركتها في الحياة السياسية من الانتخاب والترشيح وابداء الراي في الحياة العامة، وتسهيل وصولها إلى مواقع صنع القرار، وتبوؤها مناصب رسمية يمكن أن يساعد على الحد من التمييز ضدها ويعزز فرص النساء في التأثير على السياسيات العامة للبلد بما يعود بالفائدة عليها وعلى مجتمعها.