د.حسن الياسري
لقد تحدثنا في الجزء الأول من هذه الدراسة عن معنى الإدارة، وبيان وظائفها، والمهارات التي ينبغي أنْ يتمتع بها من يزاول الإدارة، وهو المدير، أو كما أسميناه بـ (الرئيس الإداري)، ثم عرجنا على الخصائص التي ينبغي توفرها في المجتمع المتطور إدارياً. أمّا اليوم فسنتحدث عن أنماط ما يمكن أنْ أُسميه بـ (الغباء الإداري).
فثمة أنماطٌ متعددةٌ باتت تمثِّل ظواهر معروفةً في الواقع الإداري العراقي، يتلمّسها المواطن في كثيرٍ من مفاصل العملية الإدارية، وهي تؤكد تغوّل الغباء في كثيرٍ من هذه المفاصل، والتي تعدُّ بمجملها خروجاً عن الواقع الإداري المألوف في العمل الإداري بحسب المعايير المعروفة في فقه الإدارة وأدبياتها. مع الإشارة إلى أنني سأذكر جملةً من هذه الأنماط والممارسات بوصفها أنموذجاً بحسب تقديري، فما سأذكره هنا يأتي على سبيل المثال لا الحصر، وهو نتاج الممارسة والمتابعة الشخصية. وأنوّه أنَّ الغرض الرئيس من هذه الدراسة تشخيص بعض الظواهر السلبية في الواقع الإداري العراقي ؛ بغية معالجتها، وليس الانتقاص ممّن يتبوؤون المواقع الإدارية. والأنماط هي كالآتي:
1- الاقتصار على العمل المكتبي دون الميداني:
لا يخفى ما للعمل الميداني من أهميةٍ كبيرةٍ في العملية الإدارية، إذ بمقتضاه يتعرّف الرئيس الإداري (المدير) عن كثبٍ على المشكلات أو المعوِّقات التي تعيق العمل، ومكامن الخلل ؛ بغية السعي إلى حلها وإيجاد الحلول المناسبة. أمّا الاقتصار على العمل المكتبي فإنه يجعل الرئيس الإداري حبيس المكتب، لا يعلم ما يحدث في محيط العمل ؛ الأمر الذي سيضطره إلى الاستماع إلى مجموعةٍ أو حلقةٍ صغيرةٍ من موظفيه، الذين قد لا ينقلون إليه الواقع، بل ما يُحب استماعه.
وبطبيعة الحال تزداد أهمية العمل الميداني حينما يكون الرئيس الإداري ذا منصبٍ رفيعٍ، مثل رئيس وزراء أو وزير، كما تزداد أهميته وقيمته في المؤسسات ذات الطابع الميداني، مثل وزارتي الدفاع والداخلية، وأمانة بغداد، ودوائر البلدية والوحدات الخدمية. فمثل هذه المؤسسات لن ينجح العمل الإداري فيها ما لم يكن ميدانياً. فإذا اقتصر الرئيس الإداري على العمل المكتبي فقط كان ذلك نمطاً من أنماط الغباء الإداري بلا ريبٍ.
2- عدم الإلمام بطبيعة العمل:
لعلّ واحدةً من المشكلات الخطيرة التي واجهت البلد تمثلت باختيار بعض الرؤساء الإداريِّين الذين لا يعرفون شيئاً عن طبيعة العمل في المؤسسة. ولا أبتغي ضرب الأمثلة ها هنا ؛ لئلا يُتصور أنَّ المقصود هو الإساءة، بيد أني أُذكِّركم بأمثلةٍ عديدةٍ مورست فيها سياسة (وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب). تلك السياسة التي تعدُّ أفضل مصداقٍ لمشكلة عدم الإلمام بطبيعة العمل، والتي كانت عاملاً رئيساً في استشراء ظاهرة الغباء الإداري في العملية الإدارية!!
إنَّ ممارسة سياسة وضع مَنْ لا علم له بطبيعة العمل في المؤسسة في موقع المسؤولية يفضي إلى أنْ يكون الغباء الإداري مزدوجاً في هذه الحالة، فهو من ناحيةٍ يشمل الجهة التي تولت تكليف أمثال هؤلاء بالمسؤولية، ومن ناحيةٍ أخرى يشمل المرء الذي وافق على هذا التكليف على الرغم من علمه بقدراته وأنه لا علاقة له البتة بعمل المؤسسة لا من قريبٍ ولا بعيد!!
وتزداد هذه المشكلة بصورةٍ ملحوظةٍ حينما ننزل إلى المستويين الثاني والثالث من مستويات الإدارة، وأعني بذلك الإدارة الوسطى التي تشمل مَنْ هم بمنصب مدير عام ومدير قسم، والإدارة الدنيا التي تشمل مَنْ هم دونهم مِن سائر الموظفين ؛ لأنَّ هؤلاء في الغالب يكونون على تماسٍ مباشر بالمواطنين ومراجعاتهم أكثر من المستوى الأول، إذْ يشعر المواطن عادةً عند مراجعته لبعض هؤلاء بالضجر والإزعاج، بل والإذلال، ويتلمَّس هذا الغباء عن كثبٍ!!
ويقوم هؤلاء – بسبب الغباء – بجعل المواطن في دوامةٍ ومتاهةٍ لها أول وليس لها آخر من المراجعات والإجراءات التي بالإمكان حسمها بخطواتٍ يسيرةٍ لا تحتاج مزيداً من التعقيد والروتين الإداري بوجهه السلبي!! ويغدو ذلك واضحاً عند مراجعة المواطن لكثيرٍ من المؤسسات ذات الطابع الخدمي، دون أنْ أُسمي إحداها ؛ لكونها معلومةً للجميع. وتكاد مقولة (تعال غداً أو بعد أسبوع، وأمثالها) ايقونةً لدى هؤلاء، على الرغم من إمكانية حسم المعاملة في ساعةٍ في كثيرٍ من الأحيان.
والأغرب مِن ذلك أنَّ بعض هؤلاء يتلذَّذ بإذلال المواطنين وبمعاناتهم الناجمة عن كثرة المراجعات!! ولن ينسى العراقيون تلك المعاناة التي استمرت أكثر من خمسٍ وعشرين سنةً – وما زالت آثارها باقيةً - مع ما يُعرف بظاهرة (المستمسكات الصدامية الأربعة) - المشار إليها آنفاً في الجزء الأول -، وعلى رأسها البطاقة التموينية، التي لا تكاد مؤسسةٌ في العراق في تلك الحقبة المظلمة يراجعها المواطن إلاّ وتطلب منه هذه المستمسكات، بصرف النظر عن طبيعة المعاملة ونوع المؤسسة، الأمر الذي يوضّح ما أطلقنا عليه (الغباء الإداري) بأجلى صورةٍ وأبهاها!!
وعلى الرغم من قيام الأمانة العامة لمجلس الوزراء في السنتين الأخيرتين من حكومة السيد العبادي بإصدار إعمامٍ يقضي بعدم طلب البطاقة التموينية من المواطنين عند مراجعتهم مؤسسات الدولة المختلفة، لكننا لاحظنا في حينه عبر المتابعة الميدانية أنَّ العديد من المؤسسات بقيت مصرَّةً على ذلك المنهج الغبي!! ما يعني أنَّ بعض السلوكيات الإدارية اليسيرة قد تتحول إلى غباءٍ إداريٍ جمعيٍ تقع فيه الكثير من المؤسسات الإدارية دون شعورٍ ؛ بحيث يتحول السلوك والمنهج – الغبي– إلى منهجٍ إداريٍ مألوفٍ لا يمكن تخطّيه ؛ وتلك هي الطامة!!
3-التزمُّت في تطبيق السياقات الإدارية–الإجرائية-:
غنيٌ عن البيان أنَّ السياقات الإدارية ما وجدت إلا من أجل تنظيم العملية الإدارية وتيسيرها ؛ وبهذا المقدار تكون السياقات ضرباً من ضروب النجاح. بيد أنَّها قد تتحول إلى نمطٍ من أنماط الغباء الإداري إذا أفضت إلى تعقيد العملية الإدارية وإعاقة النجاح والوقوف بوجه التغيير نحو الأحسن ؛ وهذا ما وقع فيه البلد للأسف الشديد. فلقد أضحى الكثير من هذه السياقات قديماً، ومعرقِلاً للنجاح، ومعوِّقاً للتقدم والتغيير نحو الأحسن، وهو أمرٌ واضحٌ للعيان في كثيرٍ من مؤسساتنا، ممّا لا يحتاج إلى بيانٍ أو سوق أمثلةٍ!!
وبحسب المتابعة وجدتُ أنَّ المشكلة الأكبر من ذلك تتمثل بالانصياع المطلق من جميع الجهات الإدارية لهذه السياقات، وعدم مراجعتها، وعدم تقديم مقترحاتٍ لتغييرها، بما ينسجم مع الواقع الجديد، وتيسير العملية الإدارية، وبما يكفل خدمة المواطن التي هي الأساس، وكأنّ لسان حالهم يتمثل بقوله تعالى - على لسان مَنْ ذمَّهم - (إنَّا وجدنا آباءنا على أُمَّةٍ وإنَّا على آثارهم مقتدون).
وبطبيعة الحال تتحمل المؤسسة المعنية التي تسود فيها تلك السياقات مسؤولية مراجعتها وتقديم المقترحات المناسبة لتغييرها إلى الجهات العليا بغية التحسين.كما يقع على الوزارات المعنية، ولا سيما وزارة التخطيط، مسؤولية متابعة السياقات التي تحكم مؤسسات الدولة. ولقد كان الأولى بالمنهاج الوزاري للحكومات المتعاقبة أخذ هذا المشكلة ضمن مفردات المنهاج لغرض معالجتها. إذْ لم تجرِ هذه المعالجات ما عدا ما قامت به حكومة السيد العبادي عبر مشروع (تبسيط الإجراءات) الذي لم يكتمل. لكنَّ كلامنا أوسع من ذلك بكثيرٍ، فهو يتعلق بضرورة مراجعة جميع السياقات الإدارية ذات الصلة المباشرة بالمواطن، سواء أكانت ذات طابعٍ شكليٍ أم موضوعيٍ، وعدم الاقتصار على مراجعة الإجراءات الشكلية فحسب.
ومِن هنا تأتي أهمية وقيمة اختيار الرؤساء الإداريّين الناجحين ؛ فلو كان رؤساء هذه المؤسسات من الناجحين لقدَّموا المقترحات المناسبة لتغيير هذه السياقات. والسؤال بهذا الصدد، كم مِنْ هؤلاء قام بإحداث تغييراتٍ إداريةٍ بهذا المستوى في مؤسسته ؟
ولا أعني بذلك قيام هؤلاء بإقصاء المدير الفلاني والإتيان بغيره، بل أعني الرؤى والأطروحات والدراسات التي قدَّموها لتحسين الخدمة في مؤسساتهم، ومراجعة السياقات القديمة وإبدالها بغيرها، شريطة أنْ يكون كل ذلك نحو الأحسن والأفضل وتحسين الجودة ومستوى الخدمة ؛ فهذا هو الإنجاز من الناحية الإدارية، وليس الإنجاز مجرد التغيير للتغيير بلا منهجٍ ولا تخطيطٍ!!
فكم واحداً من آلاف الرؤساء الإداريّين –مَنْ يتبوؤون المواقع الإدارية بحسب فقه الإدارة- في العراق قام بذلك، ولم يكتفِ بمجرد نقد الواقع ؟؟
هذا السؤال المحوري أتركه للمعنيين وذوي الشأن ؟
4- تكوين الرأي الإداري عبر المجموعة المقرَّبة:
إنَّ قيام الرئيس الإداري باختزال العملية الإدارية بمجموعةٍ من المقرَّبين – الشِلَّة أو الحاشية – يعدُّ غباءً إدارياً، ولا سيما إذا كانوا من غير ذوي الاختصاص، ويزداد الأمر غباءً وفشلاً حينما تسعى تلك الشِلَّة لتحقيقٍ مرامٍ خاصةٍ بها أو بالجهة التي تنتمي إليها بعيداً عن المصلحة العامة. فالرئيس الإداري الناجح يستشير ويستمع، لكن القرار يبقى بيده وحده، أمَّا الفاشل والغبي فهو الذي يكون أسيراً لتلك الشِلَّة والحاشية، وقراره ليس بيده بل بيد غيره، ذاك الذي ربما يكون في خارج المؤسسة!! وإنَّ الأمر ليتفاقم سوءاً حينما تكون شخصية الرئيس الإداري – المدير – هزيلةً، وشخصية بعض أفراد حاشيته، ولا سيما مدير مكتبه أو سكرتيره، أقوى منه ؛ إذ سيكون هذا المدير عبارةً عن صورةٍ بلا محتوى. ولا أخالُ أحداً يطلب مثالاً، فلقد تكررت بعض الأمثلة فيما مضى!!
إنَّ ما سلف بيانه إنمَّا يصدق مع توفر عنصر حُسن النية، أمَّا مع سوئها فإنَّ هذا الغباء يتحول إلى فسادٍ واضحٍ ؛ وذلك عندما يكون هذا الفساد هو الباعث الدافع وراء توجهات الرئيس الإداري – المدير – وشِلَّته. بل أكثر من ذلك، حتى وإنْ لم يتوفر هذا الباعث لدى المدير الإداري فإنَّ الفساد سيتغلغل في صفوف شِلَّته وحاشيته ؛ لكونه يوفرُّ لهم بغبائه الأرضية الخصبة للفساد، وستجني هذه الحاشية من غبائه الأموال المتحصِّلة عن الرشى والفساد ؛ وإنَّ ذلك لجرى فيما خلا، ولقد رأيتموه رأي العين!!
5- عدم الإفادة من خبرة الشيوخ وطاقة الشباب:
من المعروف أنَّ الخبرة تعدُّ إحدى المعالم الرئيسة للعمل الإداري، ولا يمكن الاستغناء عنها لكل من يروم النجاح. ومنْ جهةٍ أخرى يستلزم العمل الإداري الإفادة من الطاقة الكامنة لدى الشباب. فالإدارة عمليةٌ متكاملةٌ تمزج بين عنصرين مهمين، أمَّا أحدهما فهو عنصر الخبرة المتراكمة لدى الشيوخ – وهم ذوو الخبرات الطويلة في الإدارة - ، وأمَّا الآخر فهو عنصر الطاقة والحيوية لدى الشباب. وليس بوسع الرئيس الإداري الاستغناء عن أحدهما إنْ أراد النجاح، فإذا اكتفى بعنصرٍ دون آخرٍ كان ذلك بلا شكٍ نمطاً من أنماط الغباء الإداري، كأنْ يكتفي بالشيوخ ومَنْ لديهم سنوات خدمةٍ طويلة فقط دون أنْ يُطعِّم ذلك بطاقة الشباب وحيويتهم، أو كأنْ يتوجه لجميع الشباب مع إقصاء ذوي الخبرة من مواقعهم الإدارية ؛ فالموائمة بين العنصرين أحد أسرار النجاح في العمل الإداري.
هذا كله من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى لا بد من التنويه إلى أنَّ ما أعنيه بالخبرة لا ينصرف إلى سنوات الخدمة الطويلة المجرَّدة، بل ما أقصده الخبرة الإدارية الحقيقية المتحصِّلة عن سنوات الخدمة. وبيان ذلك أنَّ المرء قد يمضي ثلثي عمره في الوظيفة وعندما يُحال إلى التقاعد يخرج منها كما قد دخل إليها، بلا خبرةٍ حقيقيةٍ ولا إبداعٍ ولا إنجازٍ. ورُبَّ امرئٍ لا تتجاوز سنين خدمته الخمس لكنه يمتلك من العطاء والإبداع ما لا يملكه مَنْ خدم عشرين سنةً أو أكثر ؛ فالمعيار الحقيقي – هنا - هو الخبرة الحقيقية الناجمة عن طول الخدمة، لا مجرد طول الخدمة، وهذا أمرٌ لا يكاد يلتفت إليه الكثيرون، إذْ يعتقدون أنَّ الخبرة تعني مجرد سنوات الخدمة الطويلة، تلك الخدمة التي لا نقلِّل من شأنها ولا من اعتبارها المعنوي، لكننا بصدد تأكيد هذه الحقيقة!!
6- خرق القانون:
لا شك عندي أنَّ في خرق القانون ومخالفته الواضحة نمطاً من أنماط الفشل والغباء الإداري، بغض النظر عمَّا إذا كان الباعث الدافع لهذا الخرق هو الفساد أو عدمه!!
بيد أنَّ ثمة إشكالاً يمكن أنْ يُطرح بهذا الصدد مؤداه، أنَّ الرئيس الإداري قد يقوم أحياناً بإفراغ وسعه في الاجتهاد بغية تفسير القانون لا خرقه، فيحصل آنئذٍ الالتباس بين مفهومي خرق القانون والاجتهاد في تفسيره، فما وجه الحق في ذلك ؟
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال الدقيق، لا بدَّ من التنويه ابتداءً إلى ضرورة عدم سلب الإدارة الحق في السلطة التقديرية، شريطة أنْ لا تخرج هذه السلطة عن حدود القانون المرسومة، فالاجتهاد في القانون والأنظمة والتعليمات يتعيّن أنْ يكون بقدره، وقائماً على وفق الأسس المتعارف عليها، وصادراً من متخصصٍ. فإنْ كان الاجتهاد – الإداري – على وفق هذه القواعد والأسس المعروفة، ومشفوعاً بحُسن النية، كان حينئذٍ حقاً داخلاً ضمن مفهوم السلطة التقديرية للإدارة، وبخلافه سنكون أمام مخالفةٍ، مع الإشارة إلى أنَّ القانون قد يحدد أحياناً معالم السلطة التقديرية.
وهذا الحديث بطبيعة الحال إنمّا يصدق في بعض الأمور التي يصعبُ فيها التفريق ويدقُّ بين الخرق القانوني والسلطة التقديرية.
وللحديث تتمة في الجزء الثالث إنْ شاء الله للكلام في بقية الأنماط، والمقترحات العملية التي نعرضها لمعالجة المشكلة. يتبع..