تستمر الاحتجاجات العراقية التي انطلقت مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، للمطالبة بإقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وحل البرلمان والتحضير لانتخابات مبكرة بقانون جديد، في وقت تتعالى فيه الأصوات السياسية المخوِّنة للحراك الاحتجاجي، فضلاً عن الهجوم الكبير الذي يتعرض له ناشطون على مستوى الطعن بوطنيتهم واتهامات عدة لهم بأن قوى خارجية تقف خلف حركتهم الاحتجاجية.
ويرى ناشطون أنهم خُلقوا للمرة الأولى على الصعيد العراقي منذ عام 2003، فيما يشيرون إلى أن احتجاجاتهم الأخيرة كسرت قيود الطائفية بطرق شتى على المستوى الاجتماعي وفي كل المحافظات.
"اللحظة الوطنية"
ويقول الصحافي الناشط علاء ستار إن "اللحظة الوطنية، هي اللحظة التي بارت فيها كل بضائع الطائفية التي كانت تُباع للعراقيين على مدى 16 سنة، ولم تتبلور في الاحتجاجات، بل إنها هي التي خلقت وعياً دفع الناس إلى الخروج إلى الشوارع للمطالبة بالحقوق المسلوبة والكرامة المهدورة".
ولفت ستار إلى أن "العراقيين اليوم يخرجون إلى ساحات الاحتجاج، ومَن لا يستطيع الخروج لظروف خاصة أو عامة تراهُ يتضامن مع المحتجين بالدعاء والكلمة ويمدهم بالمساعدات اللوجستية".
وبيّن أنه "في بغداد رأيت أبناء الأعظمية وأبناء الكاظمية في ساحة التحرير، صديقي ابن الطائفة السنية رأيته يبكي على أغنية وطنية تطالب العراقيين بالتوحد، نظر إليّ وهو يبكي واحتضنني، ربما لأننا كنّا نحضّر لهذه اللحظات منذ سنين، وكنّا بانتظارها بلهفة، وها هي تجمعنا بخروجنا للمطالبة بالحقوق".
وتابع إن "هذه الطبقة السياسية التي اعتمدت الطائفية زائلة لا محالة، وسيُحاكَمون".
ويشير مراقبون إلى أن هذا النسق الاحتجاجي ضد التحاصص الطائفي بات يُقلق السياسيين ذوي التوجهات الطائفية، إلى حد جعلهم يواجهون العراقيين بكل وسائل الترويع والقتل.
وفي سياق الحديث عن عدم اشتراك المحافظات السنية في الاحتجاجات، يرى ستار أن "العراقيين في المناطق المحررة يعيشون حالة خاصة، لديهم ميليشيات تسيطر على مناطقهم، ولديهم قوات أمنية تملك غرفة إشاعة قوية تمنعهم وتخيفهم من التظاهر"، مشيراً إلى أن "السلطة هناك تصوّر أن مَن يتظاهر "داعشي"، وخلق ذلك جواً من الخوف صنعه الساسة كي لا يطالب أبناء تلك المناطق بحقوقهم المسلوبة".
ولفت إلى أن "كل هذه الإجراءات لم تمنعهم (أبناء المحافظات السنية) من التضامن مع بقية ساحات الاحتجاج، وأنا مؤمن أنه في أي تظاهرة موحدة في بغداد، سيأتي العراقيون كلهم من دهوك والموصل وحتى البصرة، محتجين وكاسرين أطواق الخوف والطائفية والعنصرية التي خلقها الساسة، رافعين العلم العراقي فحسب، هذا عصر جديد يبدأ".
اعتصام لطلاب كلية الطب في البصرة اليوم الثلاثاء 12 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي (أ. ف. ب.)
نسق خارج الاصطفافات الطائفية
من جانبه، يرى المدون مهتدى أبو الجود، الذي يتظاهر منذ بداية الاحتجاجات مطلع أكتوبر الماضي، أن "الشباب العراقي وجد قاعدة الحقوق الكبرى المشتركة، القاعدة التي أتفق عليها القاصي والداني، أبناء الجنوب قبل أبناء المحافظات الغربية والعكس صحيح، وتركوا كل الخلافات المترسبة التي سببتها السياسة الأميركية المُتَبَعة إبان الغزو للعراق عام 2003".
وتابع أنه "منذ دخول داعش تحت أعيُن قوى الاستكبار العالمي وبعد رؤية الخراب الذي صُنِع بفعل فتيل الطائفية المفتعل، أدرك العراقيون أن الطائفية عدوهم الأول. ورأينا جميعاً كيف استقبل أهل الجنوب إخوتهم أثناء النزوح من المناطق الغربية وكيف استبسلوا في الدفاع عن الأنبار والموصل وصلاح الدين".
مشاهد كسر الطائفية من ساحة التحرير
ولعل اللافتة التي رفعها الشباب في ساحة التحرير يوم 25 أكتوبر، وكُتب فيها "اليوم نلعن موت الطائفية بشكل نهائي وستُقرأ الفاتحة تحت نصب جواد سليم في وسط بغداد، قلب العالم الممزق"، أقلقت الطبقة السياسية التي تعتمد مبدأ المحاصصة الحزبية والطائفية، ما دفعها وفق مراقبين، إلى محاولة التشكيك بوطنية المحتجين، فيما يرى ناشطون أن هذه الشعارات التي تعلن موت الطائفية في ساحة التحرير هي أدق وصف لانتهاء تلك الحقبة التي أدخلت العراق في مشاكل سياسية وأمنية واقتصادية.
ويشير أبو الجود إلى أن "حقبة الصراع الطائفي انتهت. تلك التي أحرقت وأوجعت قلوب الأمهات العراقيات على مدى أكثر من 10 سنوات، هنا في ساحة التحرير نجتمع كتفاً إلى كتف، الشيعي والسني والصابئي والإيزيدي والمسيحي، كلهم يهتفون للعراق، كلهم عازمون على استرجاع الوطن الذي أخذته أيدي الطائفية إلى حافة الضياع التام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كابوس سياسي
وبينما تستمر التظاهرات المطالبة بإقالة الحكومة وحل البرلمان والتحضير لانتخابات مبكرة، تعيش الطبقة السياسية العراقية حالة قلق مع تنامي موجة رفض نظام المحاصصة الطائفية بالمطلق، بحسب ناشطين.
وبيّن أبو الجود أن "هذا ليس مصدر قلق لهم فحسب، بل كابوس مرعب يراودهم في كل لحظة، هذه الثلة السياسية تعتاش على السوق السوداء للسياسة الطائفية، لا يملكون مشاريع تنموية لهذا البلد ولا رؤية واضحة لبناء دولة محترمة تليق بتضحيات العراق الذي دافع عن العالم أجمع في ظل غزو داعش".
ولفت إلى أن "السياسيين يعتاشون على إشعال فتيل الفتنة التي لم يبق منها شيء، يحاولون إحياءها حتى يسوقون أنفسهم كمدافعين عن المذاهب والأديان، وكأنهم شيوخ جوامع وليسوا سياسيين يديرون مقاليد أمور بلد عظيم مثل العراق". وأشار إلى أن "كسر النمط الطائفي السائد سياسياً من قبل المحتجين جعل القوى السياسية تتشبث أكثر بالسلطة والكراسي التي سيكسرها المنتفضون قريباً ليصنعوا منها نعوشاً للطغاة المتجبرين".
الفقر والبطالة عوامل جامعة
من جهة أخرى، يرى الكاتب والباحث السياسي، هشام الموزاني أن "لحظة الاحتجاجات خلخلت النسق السياسي السائد، وهددت البنية السياسية لهذه المنظومة القائمة على الفساد والمحاصصة، ولكن من المبكر اعتبارها لحظة فارقة في التاريخ السياسي العراقي". وأضاف أن "البُعد الطائفي تراجع ربما إلى أدنى مستوياته منذ تأسيس الدولة العراقية، وربما بتطرف مضاد، التعريف عراقياً سيد الموقف وهذا شيء مؤسِس، لأن التجارب السابقة ما زالت حاضرة خصوصاً سلسلة الحروب الأهلية التي تلقي بظلالها حول مفهوم الثقة المجتمعية".
وأشار الموزاني إلى أن "أهم ملاحظة لكسر الطائفية هي أن الاحتجاجات الأخيرة تمركزت بأقوى أشكالها في الوسط والجنوب الشيعيين، حتى أن تأخرها في المحافظات الغربية ذات الغالبية السنية هو لأسباب موضوعية، وهي تأتي بعد مرحلة النصر على داعش، هنا يظهر أن البعد الطائفي تلاشى أمام مصالح الناس كمواطنين عراقيين بغض النظر عن طوائفهم، ليصبح الإقصاء والتهميش والفقر والبطالة عوامل جامعة للهوية العراقية قيد التنفيذ، فعراق ما بعد عام 2003 يمر بمعضلة إعادة تعريف نفسه من دون ديكتاتور يصهر المجتمع في بوتقة وطنية قسراً".
ولفت إلى أن "ما يقلق الطبقة السياسية هو أن وجودها مرتبط بحالة الانشقاق الاجتماعي والمذهبي، فديمومتها في جزء كبير منها قائم مع بقاء الصراع الطائفي، لذلك ترى في هذا الحراك تهديد وجودي يجب أن يُخوَّن ويُقمع".