اشتعلت إيران وقبلها العراق ولبنان، ملايين خرجت، ومئات قُتلوا وآلاف جُرحوا أو سُجنوا أو اعتُقلوا أو اختفوا، ولا يبدو أن هذه الثورات ستخمد، أو أنها ستنتهي بلا أنهار من دماء هذه الشعوب الثائرة ضد القمع والفقر، ولعل هذا أول قواسم هذه الشعوب المشتركة: تعيش فقراً وقمعاً، فلو عاشت تحت الفقر مع وجود حرية، فلربما هدأت أو كان قمعها أقل وحشية، ولو أنها تعيش تحت القمع مع رغد العيش، لقالوا: "بالخبز وحده يحيا الإنسان"، وغيّروا المقالة الشهيرة التي تُنسب للسيد المسيح: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". لكن هذه الشعوب تعيش الفقر والقمع مجتمعَيْن أي كما نقول بالشعبي: "فقر وغَلْدمه".
تجمع هذه الثورات قواسم مشتركة، وتختلف قليلاً عن بعضها بعضاً، ففي الحالات الثلاث، نرى النظام الإيراني عاملاً مشتركاً على اعتبار أنه جثم على صدر الشعوب الإيرانية بالحديد والنار طيلة أربعين عاماً، تدهورت فيها أحوال الناس وأصاب البلاد شلل اقتصادي وانهيار للعملة وتدهور في الخدمات وانتشار البطالة والمخدرات، كل ذلك مصحوب بقبضة قمعية حديدية مستعدة للذهاب إلى أقصى مدى من "أجل حماية الثورة ومكتسباتها"!
كما يحكم النظام الإيراني العراق بالكامل ويتحكّم بلبنان بشكل كبير، هو يحكم العراق من خلال الأحزاب الإسلامية الشيعية التي نهبت البلاد وقهرت العباد وتأتمر جميعاً بالأوامر الإيرانية، وفي لبنان يلعب حزب الله الإيراني دور المتحكّم بالقرار اللبناني: قرار الحرب مع إسرائيل أو في سوريا وقرار تشكيل الحكومة من عدمه أو تعطيلها ولو كان ثلثاً عددياً، وذلك بالقوة كما جرى عام 2008 باجتياح ميليشياته لبيروت الغربية، أو كما يجري هذه الأيام من بلطجة عناصر الحزب واستخباراته.
يجمع هذه الثورات أنها ضد الحكم الديني- وتحديداً الحكم الديني الشيعي، فلا شعارات دينية ولا وجود لشعار "الإسلام هو الحل"، ولا صور لقادة معمّمين أو دعاة ملتحين، بل العكس هو الصحيح، فالأخبار الواردة من هذه الدول تفيد بأن كثيرين من المعمّمين نزعوا عمائمهم خوفاً من غضبة الشارع وتعرضهم لهجوم "الثوار"، خصوصاً في العراق الذي ظهر فيه المعمّمون بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، بعضهم كان يهتف قبل سقوط النظام: "صدام اسمك هز أميركا"، وبعد سقوط صدام، لبس العمامة وبدّل الشعار إلى "هيهات منّا الذلة" و "يا لثارات الحسين"، وبعدما كان يرفع صور صدام، بدأ برفع صور الخميني وخامنئي.
ولأن إيران تحكم العراق بالكامل، فإن أسلوب التعامل مع الثورتين في العراق وإيران متشابه: قطع الإنترنت وقتل وقمع دموي وحشي بلا هوادة أو رحمة، تتحدث الأرقام الرسمية عن أكثر من ثلاثمئة قتيل في العراق وآلاف الجرحى والمفقودين والمخطوفين والمعتقلين، بينما تتحدث مصادر غير رسمية عن أن أرقام الضحايا أكثر من ذلك بكثير. كما تشير أرقام القتلى في الأيام الأربعة الأولى بإيران عن مقتل مئتي ضحية وآلاف من الجرحى والمعتقلين.
لكن لأن إيران تتحكّم بلبنان ولا تحكمه، فقد كان التعامل مع الثورة مختلفاً، لم تقطع الإنترنت ولم ترتكب المذابح بحق اللبنانيين بعد، أقول "بعد" لأن إيران جن جنونها وخاب أملها بلبنان الذي استثمرت فيه كثيراً من أجل حزب الله. بالتالي، فهي غير مستعدة للتخلي عن تحكمّها به من دون ثمن، وقد يكون هذا الثمن شبيهاً بأثمان الدماء التي يدفعها شعبا العراق وإيران نفسها.
ما يجمع ثورتَيْ العراق ولبنان هو أن سخطهم موجه نحو إيران الدولة، بينما ثار الإيرانيون ضد النظام في طهران، ممثلاً بحكم ولاية الفقيه.
ما يجمع الثورات الثلاث أنها تلقائية وبلا قيادات معروفة، ومطالبها تستهدف إسقاط النظام من دون التنظير بطرح بديل.
إنّ ما يجمع الثورات الثلاث أنها ثورات ضد القهر والفقر، وليست من أجل الحرية وبناء الدولة الحرة المدنية العلمانية، صحيح أنّ شعارات الحرية تتردّد في الدول الثلاث، ولكن الحرية كقيمة لم تتغلغل في أذهان "الثائرين"، ولم ينظّر لها قادة ونشطاء هذه الثورات، وأغلب الظن أنها الحرية "المنضبطة" التي لها "حدود" سيرسمها "الثائرون" بعد انتصار الثورات كل حسب طائفته ودينه وعشيرته ومفاهيمه الاجتماعية.