الجيل الثاني من ثورات الربيع العربي

آخر تحديث 2019-12-09 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

لم تتدخل الثورات الشعبيَّة العربيَّة الراهنة في شؤون دولٍ أخرى، واكتفت بشعارات ومطالب خاصة بها وببلدانها، ولأن ما تعانيه هذه الشعوب متشابهٌ ومتقاطعٌ، ارتفع صوتها بهتافات متقاربة في المضمون.

صَرخَ التونسيون في البدايَّة: "ديغاج"، أي (ارحل)، ثم هتف المصريون "الشعب يريد تغيير النظام"، وتبنّى اليمنيون الهتاف، وفِي سوريا تركّزت الصرخات ضد "بشار"، مقترنةً بالإلحاح على "الكرامة الإنسانيَّة".

كانت مآلات تلك الثورات متباينة، واجهت ثورة مصر خطط (الإخوان) للسيطرة على السلطة، وانتهت ثورة اليمن بـ(الانقلاب الحوثي) معلناً تدشين عصر التدخل الإيراني في جنوب الجزيرة العربيَّة، وأُغرقت ثورة سوريا في "الدماء والإرهاب والتدخلات الأجنبيَّة".

ونجت ثورة تونس التي افتتحت عصر (الربيع العربي)، وإلى شرقها فشلت ثورة ليبيا وتحوَّلت البلاد إلى منطقة صراع للنفوذ بين الشرق والغرب، ومحط أطماع لا محدودة ظهرت آخر تعبيراتها في الاتفاق الأخير بين تركيا وحكومة طرابلس، وإلى غربها تحرَّكت الجزائر في انتفاضة مستمرة منذ شباط (فبراير) الماضي، مفتتحة ما يمكن تسميته "الشوط الثاني من انتفاضات الربيع العربي".

يخطئ من يظن أن انتفاضات (الجيل الثاني) العربيَّة لم تستفد من أخطاء وثغرات (الجيل الأول)، تحديداً في رفضها اللجوء إلى العنف في تحرّكها من أجل التغيير.

حدد الجزائريون أهدافهم واحتشدوا أسبوعياً من أجلها في مسيرات عارمة، هدفُهم هو الخلاص من نظام قاد بلدهم الغنيّ بالثروات الطبيعيَّة والطاقات البشريَّة وإحلال نظام جديد بوجوه جديدة نظيفة مكانه، يُنهي مرحلة العقم والفساد.

وخلال ما يقرب من عام تمكَّن الجزائريون بإصرارهم وثباتهم وسلميتهم من كشف وتعريَّة رموز العهد البائد وآليات تسلُّطهم، ومنعوا من جالت في رأسه فكرة القمع من أن يلجأ إليها، وجعلوا الجيش في موقع المساهم في التحوّل لا في موقع مواجهته.

بعد الجزائر، اندلعت انتفاضة الشعب السوداني ضد نظام القمع والحروب الداخليَّة والإفقار والنهب. اعتمد السودانيون بقيادة هيئاتهم المدنيَّة وأحزابهم العريقة أسلوب "التظاهر السلمي الضاغط" وثابروا، رغم تصدي قوات السلطة لهم بالسلاح ما أوقع ضحايا في صفوفهم.

رفض السودانيون اللجوء إلى العنف، ورفعوا لافتات تدعو إلى مواجهة البنادق بالفكر، وانتصروا في النهايَّة في فرض سلطة انتقاليَّة على طريق بناء نظام سياسي جديد.

العراق، هو الحلقة الثالثة في نسخة الربيع العربي الجديد، وفِي هذا البلد العربي لا تختلف أسباب الانتفاضة كثيراً عن غيرها في البلدان الأخرى، فأرقام الهدر والسرقة الخياليَّة باتت حديثاً سهلاً وعادياً على ألسنة العراقيين، وغياب الدولة وتشتتها بين محاصصة مذهبيَّة وشراكات أمنيَّة ميليشياويَّة أسفر عن تحوّل الفساد والإجرام إلى عنصر يومي في حياة الناس، والبلد الغنيّ بنفطه يعجز عن تلبيَّة أبسط حاجات شعبه الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

من أجل فرض تغيير في إدارة البلد وفِي نظامه السياسي قامت انتفاضة العراقيين المستمرة منذ السادس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وبعدها بعشرة أيّام انطلقت انتفاضة اللبنانيين لأسباب قريبة وشبيهة.

في لبنان أيضاً سلطة فاسدة وفريق حكم أمعن في الدولة استنزافاً، وفِي الشعب استغلالاً، حتى دخل لبنان نادي الدول المنهارة اقتصادياً ومالياً.

دفع تشابه أهداف الثورات العربيَّة الجديدة الشعوب المعنيَّة تردد هتافات متشابهة في مضمونها، ما يشير إلى وضوح في الرؤيَّة لدى هذه الشعوب، ويسهل في الواقع وصولها إلى هذه الأهداف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان شعار الجزائريين "يتنحاو قاع"، أو (فليتنحوا)، وانتشر في السودان هتاف "تسقط بس" في وجه سلطة الرئيس عمر البشير، وفِي العراق صرخ المتظاهرون "شلع قلع" بمعنى (ارحلوا جميعاً)، أمَّا في لبنان فسَادَ هتاف "كلن يعني كلن"، أي أن المطلوب رحيل جميع المسؤولين عن قيادة البلاد إلى الكارثة.

تأثرت الانتفاضات ببعضها البعض، ليس فقط بسبب مطالبها المشتركة إنما أيضاً بسبب اعتمادها جميعاً على وسائل التواصل الاجتماعي في تعميم رسائلها وتوجيهاتها، وشهدنا كثيراً من المظاهر المشتركة والأساليب المتشابهة تعتمد في تظاهرات البلدان الأربعة، من توجيه التحيات التضامنيَّة إلى اقتباس نشاطات نراها بدأت في لبنان فتتكرر في بغداد والخرطوم والجزائر أو بالعكس.

ملاحظة مهمة أخيرة، لم يتحدَّث أحدٌ في السودان أو الجزائر عن مؤامرة (أميركيَّة – إسرائيليَّة) وراء انتفاضة شعبي البلدين رغم لجوء السلطات في البلدين أحيانا إلى محاولة تشويه سمعة وأهداف المنتفضين.

فقط في لبنان والعراق قادت إيران حملة تشويه سياسي فاشلة، بذريعة أن انتفاض الشعبين هو نتيجة تلك المؤامرة، وهذا في كل حال تحدٍّ إيراني مكشوف الغايات، يواجهه الشعبان بالتركيز على أهدافهما المباشرة: إجراء تغيير حقيقي في إدارة بلديهما.