كتبت فصيلة دمها على ثوبها الأبيض... العراقية آية شاهدة على فظائع القتل

آخر تحديث 2019-12-10 00:00:00 - المصدر: الحرة

ترفع آيات يدها اليمنى وسط ساحة التحرير في بغداد، والدموع تنهمر من عينين تختبئان خلف نظارتين طبيتين مرتاحتين على وجه طفولي، وتردد خلف صوت يصدح من بعيد: "سلام عليك على رافديك عراق القيم، فأنت مزار وحب ودار لكل الأمم".

أصبحت قصيدة الشاعر أسعد الغريري التي غناها كاظم الساهر بمثابة نشيد وطني جديد لعشرات الآلاف من العراقيين الذين يملؤون منذ نحو شهرين ساحة التحرير وسط بغداد، مطالبين بـ"إسقاط النظام" وطبقة سياسية يحملونها مسؤولية أعوام من المعاناة والفساد وتحويل الأحلام إلى كوابيس.

آيات (23 عاما) التي تقترب من إنهاء تخصصها في الطب بإحدى جامعات العاصمة، وجه من وجوه ساحة التحرير حيث يروي "نصب الحرية" أحداثا مفصلية شهدها العراق على مر تاريخه.

ليست وحدها المشاركة في رسم لوحة غير مسبوقة في التاريخ الحديث لبلاد الرافدين حيث يحمل آخرون معها أحلامهم في سبيل وطن أفضل، ومنهم حسين سائق "التوك توك"، وعلي الناشط الحقوقي الموثق للانتهاكات، وخيرية الخمسينية الحاضرة لتطهو للمحتجين بحنان الأم.

"لا نعرف في أي لحظة نموت"

في أمسية من نوفمبر، دعا صوت المعتصمين إلى رفع رؤوسهم بداعي الفخر لما يقومون به، مذكرا إياهم بأنه "عندما يتكلم العراق، الكل يسكت".​

صمت كثيرون في تلك الليلة بخشوع وسط الدموع والشموع إحياء لذكرى ضحايا قضوا منذ بدء الاحتجاجات، تجاوز عددهم حتى اليوم 450 شخصا.

ومع بزوغ ضوء النهار، تترك آيات الساحة من دون أن تبتعد عنها. وتحاول إنقاذ آخرين من ملاقاة المصير نفسه.

ويعتبر شارع الرشيد معقلها، وهو أحد أبرز الأحياء التراثية في بغداد وقد تحول إلى ساحة حرب في ظل المواجهات بين القوات الأمنية والمحتجين.

ساحة اشتباكات شبه يومية بين المتظاهرين وقوات الأمن في شارع الرشيد قرب مركز الاحتجاجات في ساحة التحرير وسط بغداد

تعمل آية مع أطباء ومتطوعين على إسعاف المصابين في المواجهات مع القوات الأمنية، جراء تعرضهم لوابل من الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع التي تطلق نحوهم مباشرة، وتصيبهم في الرأس والصدر.

تقف آيات بثوبها الطبي الأبيض الذي كتبت عليه فئة دمها "أو سلبي"، واضعة على وجهها قناعا واقيا، وعلى رأسها خوذة سوداء، وحول عنقها سماعة طبية. غير بعيدة من دخان أسود يتصاعد جراء حرق الإطارات المطاطية.

تقول "هذا مكان خطأ، لكن نحن يجب أن نكون في المقدمة لنساعدهم. لا يجب أن نتركهم، لا يجب أن يحصل لهم شيء".

وتضيف لوكالة فرانس برس وهي حاول التقاط أنفاسها "الوضع خطر، متأزم، لا نعرف في أي لحظة يضربوننا، لا نعلم في أي لحظة نموت".

لم يسلم الأطباء والمسعفون من دورات العنف التي تطول التظاهرات، ووصل إلى حد اعتقال عدد منهم، بحسب آيات التي تضيف "نحن الأطباء مستهدفون من كل النواحي، التهديدات وصلتنا حتى البيت. التهديدات وصلت إلى والدي (...) لكن يجب أن نساعد" الجرحى الذين "يتم نقلهم بالتوك توك لأن سيارات الإسعاف قليلة، والاسعاف لا يتقدم، دائما ما يكون إلى الخلف، والتوك توك يكون في المقدمة".

العراق في المركز 169 بين 180 دولة على مؤشر الفساد

"من أجل حقوقنا"

أضحى الـ"توك توك"، العربة الصغيرة ثلاثية العجلات، أيقونة الاحتجاجات.

في ساحة التحرير، على خطوط التماس عند مداخل الجسور المقطوعة، على ضفاف دجلة، في شارع الرشيد، في الأزقة... يبدو الـ"توك توك" متأهبا.

يحضر حسين بـ"توك توك" أحمر، مسرعا لنقل متظاهر مصاب. يضعه زملاؤه في المقعد الخلفي، وينطلق به ابن الثامنة عشرة سريعا وبخط متعرج، مطلقا العنان لبوق عجلته لتنبيه أخرى تعمل على الخط نفسه.

التوك توك تحول إلى وسيلة لإسعاف الجرحى والمصابين في الاشتباكات

وجهته المفرزة الطبية حيث يحمل الشاب إلى الداخل لتلقي العلاج. ويوضح "أحببت أن أبادر، أن أقدم شيئا لأهلي وأصدقائي وأساعدهم (...) عملي هو نقل جرحى ومصابين".

وتحمل نبرة الشاب الذي ارتدى قبعة زهرية وقميصا أسود كتب عليه بالإنكليزية "نيفر لوك باك" ("لا تنظر أبدا إلى الوراء") تصميم معاناة ولدت من رحم عائلته الفقيرة والكبيرة (ثمانية أفراد)، والتي دفعت ابن الزعفرانية (جنوب شرق بغداد) للعمل على الـ"توك توك" منذ نحو عامين.

ويوضح "يا دوب (بالكاد) يوميتي 20 أو 15 ألف (دينار، أي بين 13 و16 دولارا)، ولا مساعدة لي أو أي راتب من الدولة".

نال "التوك توك" مكانة كانت مفقودة. فقبل الاحتجاجات، كانت هذه العربة محط نظرة دونية حيالها وحيال سائقيها، وغالبيتهم من الأحياء المعدمة. لكن منذ الأول من أكتوبر، هذه النظرة "تغيرت لأننا صرنا عائلة واحدة. التوك توك هو من يأخذ المصاب أو الجريح (...) ومن يوصل الأكل والدعم إلى الناس المتقدمة على الجسر"، بحسب حسين.

يؤشر حسين إلى الواجهة الزجاجية المتضررة لـ"التوك توك"، ويقول إنه أوقف من قبل القوات الأمنية وتعرض لضرب لم تسلم منه عربته أيضا.

ويتابع "عندما عدت وجدت أناسا سقطوا أرضا ويعانون من الاختناق. كل هذا لم؟ من أجل حقوقنا وهذا ما أتينا من أجله".

"للتوثيق، رغم التخويف"

يخرج علي المكدام من نقطة تجمع قرب ساحة التحرير متجها إلى الرشيد. على ظهره حقيبة، على رأسه خوذة، حول عنقه كوفية، وفي يده "سلاحه": هاتف نقال يوثق من خلاله "كل حالات الانتهاك التي تحصل".

ويخفي الناشط الحقوقي ابن الحادية والعشرين عاما، والطالب في أحد معاهد التعليم في العاصمة العراقية، خلف لحيته البنية الخفيفة وعينيه الخضراوين، عزما على تسجيل كل ما يدور من حوله، بغرض إرساله إلى المنظمات الحقوقية لكشف ما يتعرض له المتظاهرون، لا سيما في ظل القطع المتكرر لخدمات الاتصال بالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.

ويقول "رغم التهديدات، رغم القمع، رغم التخويف، رغم الترهيب، موجودون لنوثق كل لحظة بلحظة، كل انتهاك لحقوق الانسان، كل طلقة رصاص تطلق (...) كل الانتهاكات".

متظاهر عراقي في ساحة التحرير ببغداد- 10 ديسمبر 2019

يتقدم علي في أزقة الرشيد التي ملأت النفايات جانبيها، وتركت في أرضها عربات خشبية للباعة الجوالين. يتحدث إلى محتجين يحتمون خلف عوائق إسمنتية وحديدية، بأقنعتهم وأعلام عراقية تغطي وجوههم وأكتافهم. يرفع هاتفه ويصور.

لكن علي، كغيره من أبناء جيله، متظاهر أولا وأخيرا، ينضم إلى آخرين بهتاف "بالروح بالدم نفديك يا عراق".

"لا حق لنا بالعراق؟"

من بين المحتجين، ابنا الحاجة الخمسينية خيرية، التي انتقلت من مكان إقامتها في بلدة الصويرة جنوب شرق بغداد، لتكون في ساحة التحرير.

وتسأل أم حيدر بحرقة قلب "نحن بلد مثقف، بلد واعٍ، بلد شبعان ليس في حاجة، نحن أهل النفط، لسنا بلدا ضعيفا (...) نريد بلدا مثل بلدان العالم. ألسنا عراقيين؟ لا حق لنا بالعراق؟".

وانصرفت خيرية بحنان الأم إلى تحضير الطعام للمشاركين. تداعب العجين كما تهدهد طفلاً في مهده. تضعه في التنور، وتقدمه رغيفاً كاملاً، أو تقطعه قبل أن تغمره بمرق تغرق فيه قطعاً من اللحم والدجاج.

عراقيون يطهون الطعام ويحضرونه للمحتجين في ساحة التحرير- 10 ديسمبر 2019

الطهو "الجماعي" ليس غريبا عن العراقيين. فالتكافل الغذائي دائم الحضور في المناسبات الدينية ومجالس العزاء لشعب عرف الحصار والحروب والمعاناة.

في ساحة التحرير، يحضر هذا التعاضد أيضا حول أم حيدر التي بدأت الطهو بمبادرة فردية ومن جيبها الخاص، قبل ان يتجمع حولها متطوعون ومتبرعون في "أرض تفيض عطاء"، كما تقول قصيدة الغريري.

"أحلم أن أعيش حرا"

في بلاد تنفست الشعر والثقافة والأدب على مدى حضارة لآلاف الأعوام، لا يغيب عن العراقيين قول محمود درويش "قف على ناصية الحلم وقاتل".

وفي يوميات العراق منذ الأول من أكتوبر 2019، قتال من نوع آخر لشعب خبر على مر تاريخه، سلسلة غزوات واجتياحات.

آيات، حسين، علي، وخيرية... عيّنة مصغرة لأناس باتت يومياتهم تدور حول البحث عن غدٍ أفضل. هم أربعة من عشرات الآلاف في بغداد، الكوت، الناصرية، الديوانية، كربلاء، البصرة، وغيرها، استثمروا نشاطهم اليومي في سبيل نسج حلم جماعي لبلد يبلغ عدد سكانه 40 مليون نسمة.

في ختام يوم طويل، يركن حسين الـ"توك توك" على ضفة دجلة، يتأمل من جهة جسر الجمهورية والعوائق الإسمنتية وعربات قوات مكافحة الشغب المتحصنة عليه، ومن الأخرى خيم المعتصمين والأعلام العراقية.

يوثق علي انتهاكات القوات الأمنية

وبينما تلقي الشمس بأشعتها مودعة يوما آخر من الاحتجاجات، يتطلع الشاب الأسمر صوب النهر، ويقول "أحلم أن يصبح عندي وطن، أحلم أن أعيش حراً".

ويضيف "أحلم بأن تنتهي هذه الحرب. كلها دم بدم، متى نعيش مرتاحين؟ (...) نريد أن نعيش بأمن وأمان"، قبل أن يضيف بنبرة من الأمل "هذه الأحلام، ولو أنها بسيطة، لكنني أتمناها".