سألت صديقاً نافذاً، لماذا أنتم سعداء ونحن العراقيون نظل التعساء؟، بكل ثقة أجابني: كيف تسوق سيارتك؟ قلت لدي رخصة قيادة (لايسن)، قال: نحن أخذنا لايسن كي ندير أمورنا، وأردف: أزمتكم لم تتعلموا بعد اللعب مع الكبار المسيطرين على العالم، وتظنون أنكم لوحدكم تتمكنون من العمل بمفردكم، وكل الذي يدير حياتكم حتى منتجات لم تصنعوها في معاملكم، ولم يكن لكم الفضل بابتكارها أو صناعتها، بل حتى المورد الرئيس الذي تعيشون من عائداته، هم من يقومون باستخراجه وشرائه منكم، وأنتم تكتفون بتوزيع عائداته على قوى الحكم الفاسدة، وتتجاهلون شعبكم الذي ينتفض منذ أشهر دون جدوى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حشود تتدفق على العراق
فكرت طويلا في كلامه، وأنا أعاين الحشود التي تأتي إلى العراق وتحيله إلى ثكنة عسكرية من جديد، وأدرك أنها قادرة على قتل المزيد وتحويل البلاد حجرا وبشرا إلى أرض محروقة، وزعاماتنا تدرك أنها لم تتمكن حتى من استخراج مواردنا أو نصب تكنولوجيا الطاقة وتحلية المياه حتى الآن، التي نحن بأمسّ الحاجة إليها، والكثير منا لم يدرك بعد أن الغربيين يعملون معنا ولنا ولمنفعتهم، والعالم لم يعد قرية إلكترونية صغيرة كما قال مارشال ماكلوهان فحسب، بل تحول إلى شاشة بحجم الكف، يرى من خلالها العراقيون حالهم الذي انقلب إلى الاحتراب والخسارات المتلاحقة.
حرب تلد أخرى
من الذي يتحكم اليوم بالمشهد العراقي؟ سؤال وجيه أن يطرح بعد هذا التهديد والاقتراب من حالة الحرب التي تلد أخرى والتعقيد والتشابك في المواقف، بين شارع محتج ناقم منذ مائة يوم دون جدوى، في تشكيل حكومة بديلة لحكومة عادل عبد المهدي المستقيلة التي يسعى حلفاء إيران لإعادتها بالقوة، حتى إن استنفدت وضعها القانوني والدستوري في البقاء، وأحزاب نافذة حليفة لإيران تصر على بقائها، لأنها الأنسب لتنفيذ متطلبات مصالحها على حد وصف نائب عراقي، وبرغم القتل في الشوارع للمتظاهرين الغاضبين الذين أسقطوها بقوة حناجرهم وإصرارهم على البقاء في الشوارع، ومحاولة الوصول للمنطقة الخضراء لإسقاطها بالكامل، وهو هدف يصّر المتظاهرون على تحقيقه.
شارع عراقي ملتهب
هذه الأوضاع مكنّت قوات عبد المهدي وميليشياته التي وصفها بالطرف الثالث أن تستمر في قتل المدنيين السلميين بدعاوى غير مبررة للشارع العراقي المشارك كله ضد سلطة يتهمها بالفساد، ويرفع بوجهها الفيتو عند محاولة البقاء، لأنه يرى حجم ونوع التطور الذي تحقق في بلدان الجوار التي لا تملك ربع ميزانية العراق التي تصل إلى 150 مليار دولار سنويا من عائدات النفط، ومن المنافذ الحدودية والسياحة الدينية والموارد الغازية والتجارية وسواها إضافة إلى تبعيتها السياسية والاقتصادية لإيران.
صراع إيران وأميركا
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الصراع الايراني - الأميركي حولّ العراق إلى ساحة حرب للكر والفر بين الطرفين، الذين يجدون في العراق منطقة منافع حيوية لا غنى عنها، فإيران تجد في العراق الغني الدولة المنقذة لاقتصادها المنهار، بفعل الحصار الأميركي الفاعل الذي جعلها تخسر أكثر من 220 مليار دولار، وفقما أورده الرئيس الإيراني حسن روحاني، وأنها تستنفر داخليا بالاحتجاجات بمناطق منتفضة في الأقاليم غير الفارسية، التي تتحين الفرص للانقلاب والتفكك طلباً للخلاص من نظام ولاية الفقيه الذي يسعى لإبقاء إيران الثورة بولاية الفقيه، ليستمر في الحكم الذي يفرض عسكرة المجتمع وتحويله إلى بلد مقاوم للوجود الغربي وسياساته في المنطقة كما هو معلن.
نفوذ إيراني في العراق
ويسعى في محصلاته لإعادة الهيمنة القومية الفارسية بلباس ديني طائفي، يجد له مشتركات في بعض البلدان ذات الأغلبية المذهبية الشيعية، لذلك فإنها عملت جاهدة في مد نفوذها بثلاث فيالق فاعلة في الداخل العراقي والسيطرة عليه سياسيا ومنفعيا، بتأسيس أحزاب وتشكيلات مرتبطة به ومنتفعة من الحماية الإيرانية، وبعقيدة الحرس الثوري الذي يعمل جاهدا على التمدد في العراق وحصاد تمدده الحالي والفراغ السياسي بعد احتلال العراق وإسقاط نظامه عام 2003، من قوى التحالف الدولي وبزعامة الولايات المتحدة إبان عهد الجمهوريين خلال حكم الرئيس بوش الابن.
اتفاقية صوفا
أما الولايات المتحدة التي وقعّت مع العراق اتفاق تفاهم (صوفا) قبيل انسحابها عام 2011 في عهد الرئيس الديموقراطي أوباما، الذي قدّم لإيران مكتسبات لا تحلم بها، لا سيما في الاتفاق النووي وفك عنها الحصار الاقتصادي وأطلق يدها في العراق، إلى الحد الذي جعل الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يجاهر بضرورة أن تحل إيران محل الولايات المتحدة لملء الفراغ الذي يخلفه انسحابها، وإذ ذاك أطلقت يد الميليشيات الموالية لإيران التي زاد عددها إلى ستين ميليشيا، استحالت رويدا رويدا إلى بديل عن القوات المسلحة، بل لبستها قفازاً لضرب خصوم إيران في العراق، على مرأى ومسمع الولايات المتحدة التي أضحت متفرجة ومكتفية بامتلاك أكبر سفارة في العالم، ومنعت ثلث سكان بغداد من المرور في منطقة حمايتها المسماة بـ"المنطقة الخضراء"، التي حوّلت إدارتها للطرف العراقي بعيد الانسحاب، وهي تتلقى منذ ذلك التاريخ هدايا ميليشيات إيران بضربها وتهديد محيطها بصواريخ الكاتيوشا، كلما أرادت أن تنذرها.
جدوى الديموقراطية في العراق
في معادلة غريبة لم يدركها العراقيون، أو لم يكونوا مهيئين لها، أكدت لهم الولايات المتحدة أنها راعية الديموقراطية في العراق، وإنها تتكفل بمسارها وتطورها بعد أن أسقطت النظام السابق وجاءت بمكونات المعارضة لنظام صدام حسين، وأشرفت وباركت على صياغة دستور البلاد من خلال مساهمة السفير الأميركي في العراق وقتها خليل زاد الذي كان بمثابة الموفق بين الأطراف العراقية، على حد وصف السياسي والنائب السابق بهاء الأعرجي، حين اعتمد على معايير المكونات الثلاثة شيعة وسنة وأكراد، وفرض الثلث المعطل لقرارات هذا الدستور المتمثل بالكرد.
في أغرب دستور في العالم وضع ألغاما لا تعد أو تحصى، حسب انتقادات القانونيين العراقيين والدوليين المهنيين، مما تسبب في دوامة من الخلافات التي أفضت عليها المحاصصة السياسية طابعا شرعيا ًلوجود تلك الألغام، كان حصاد تلك الديموقراطية مراً، بتشرذم وعي الناس وحلول المحاصصة السياسية والانخراط بالطائفية، وشيوع الفساد الذي لم يسبق له مثيل، وولادة مجتمع ميليشياوي عوّم الدولة ورهنها لفيالق إيران وعناصرها الموجودة على الأراضي العراقية لا سيما في البصرة حيث يستخرج ويصدّر النفط.
فرض الهيمنة الإيرانية
أمام هذا الوضع المتأزم، فإن الأمور وصلت إلى أن تعلن إيران هيمنتها شبه المطلقة على مناطق النفوذ في صناعة القرار في العراق، وتطلب من حلفائها إلغاء الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة بتقديم رئيس الوزراء حليفها، طلب للبرلمان للمصادقة على الانسحاب منها، ورغم انسحاب الكرد وأغلب النواب السنة ودون تحقيق النصاب القانوني، واعتبار الجلسة استثنائية فقد أقر الانسحاب.
انقسام البرلمان حول الانسحاب
رغم تأكيد رئيس البرلمان محمد الحلبوسي أن الموجودين هم النواب الشيعة فقط، الذي سرّبه بذكاء إلى العالم ليشعر الأميركان أن المكون السني والكردي غير موافقين على التصويت وقف العمل بتلك الاتفاقية، في حسابات مستقبلية، بعدم التورط في مجابهة القوة الأعظم في العالم لسواد عيون إيران وحلفائها، مما جعل العراقيين يدركون أن ما يحدث اليوم في بلدهم يتعدى في أبعاده قضية اغتيال الجنرال سليماني ومعه نائب رئيس الحشد أبو مهدي المهندس، لتصعّد إيران بدهاء سقف مطالبها موظفة ذلك الحادث إلى محاولة تطويق الوجود الأميركي في العراق وإحراجه أمام الشعب العراقي الذي صوّت نوابه الشيعة على طردهم.
قصف إيراني لقواعد أميركية
لكن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر، لأن الطرف الأميركي الذي حذّر من مغبة التمادي في محاولة إخراج أميركا من العراق كشف أنه لم يكن قرار جميع العراقيين، بل تقتصر على رغبة سياسيين مرتهنين بالقرار الإيراني الذي أعلنه وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر بتأكيده أن بلاده ليس لديها خطط للانسحاب من العراق، أعقبه سقوط 22 صارخا باليستيا، بينها 17 صارخا على قاعدة عين الأسد في الأنبار وسقوط خمسة صواريخ استهدفت قواعد أميركية في أربيل، كما أكد إعلان خلية الإعلام الأمني التابعة لرئاسة الوزراء العراقية، ردت بها إيران على مقتل سليماني.
وفسرها بعض المحللين أنها مسعى للحفظ على ماء الوجه لإيراني، كونها حدثت دون إصابات مباشرة للجيش الأميركي، مما أثار غضب الشارع العرافي الذي سبق ودان مقتل المهندس وسليماني على أراضيه قرب مطار بغداد الدولي، وعده خرقا لسيادة العراق من قبل إيران، دون اكتراث أميركي، لأن تلك الصواريخ سقطت على أرض عراقية وبخسائر عراقية.
الضرر العراقي
في وقت أكد النائب أحمد الجبوري القصف الإيراني في العراق بحجة قصف الأميركان بأنه "في الأصل اختبار للصواريخ الإيرانية في ميادين المدن العراقية"، وأردف، "ولا نريد أحداً في الحكومة أو البرلمان يتكلم عن السيادة وأخواتها، لأنها أصبحت من الماضي في ظل حكومة عبد المهدي التي جاءت بها المحاصصة والفساد"، على حد قوله.
وأثار هذا القصف ثورة الشعب العراقي وحنقه بأن يتحول بلدهم إلى منطقة يتقاتل عليها الإيرانيون وخصومهم الأميركان، لا سيما بعد تصريح اللواء محمد باقري رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الايرانية التعليق على أزمة مقتل سليماني بالقول لوكالة تسنيم الايرانية؛ (أي رد أميركي سوف يحرق جميع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة)، في وقت أكد فيه خامنئي، "أن الرد العسكري الذي تم كان مجرد صفعة، وهو ليس بحكم الجريمة والرد الأساسي هو بخروج الأميركان من المنطقة"، كما في نص أعلنته فضائية الميادين الموالية لإيران،
هذا ما دفع كاتبا عراقيا ساخرا إلى القول، "يلعب العراق وإيران في العراق، والنتيجة 10 - 0 ضد العراق، وهي تلخص خرافة السيادة العراقية".