لعبة الأمم على المسرح الليبي تحتدم إلى جانب المسرح السوري والمسرح العراقي. والقاسم المشترك بين هذه المسارح المفتوحة على المسرح الشرق أوسطي الواسع هو تداخل الصراعات المحلية والصراعات والمنافسات الإقليمية والدولية. أبسط ما يفعله التداخل هو إطالة عمر الصراعات الجديدة وحجب الاهتمام عن الصراعات القديمة الطويلة العمر كالصراع العربي-الإسرائيلي. وأخطر ما يقود إليه هو توليد صراعات كانت نائمة وإحياء أيديولوجيات متطرفة كانت مرفوضة شعبياً، ثم تعقيد الحلول والربط بينها، بحيث تصبح بالغة الصعوبة. ولا فرق سواء على مستوى كل مسرح أو على مستوى المسرح الواسع الشامل. فما بدأ انتفاضات شعبية ترفع شعار "خبز، حرية، كرامة" عام 2011، صار بسبب عناد الأنظمة وعنفها ثورات ما سمي "الربيع العربي". والتداخل الإقليمي والدولي قاد إلى تحويل الثورات حروباً دخلت عقدها الثاني في العام الحالي. وليس وقف النار كالذي أعلنه الروس والأتراك في ليبيا وإدلب السورية سوى تاكتيك في إدارة الحرب.
ذلك أن المطالب الشعبية التي رفعتها الانتفاضات هي آخر هموم القوى الإقليمية والدولية المتدخلة في الصراعات الداخلية. فلا قوة خارجية جاءت إلى سوريا وليبيا والعراق من أجل "الديمقراطية" للشعوب. ولا الفشل الديمقراطي حجب ما خلقته الثورات من "نظام عربي جديد"، كما كتب مارك لينش أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن وصاحب كتاب "الحروب العربية الجديدة: انتفاضات وفوضى في الشرق الأوسط". خلاصة النظام العربي الجديد، في رأيه، هي "جمود القوى التقليدية" التي كانت تقود العالم العربي مثل مصر وسوريا والعراق، و"ازدهار دول الخليج الغنية"، وظهور "لاعبين جدد وإمكانات جديدة" في أعقاب انتشار دول ضعيفة فاشلة.
لكن النظام العربي الجديد يواجه نظاماً إقليمياً قلقاً ونظاماً عالمياً لم يكتمل بعد. أميركا، مع الرئيس دونالد ترمب وقبله مع الرئيس باراك أوباما، حائرة بين التدخل والانسحاب من المنطقة لمواجهة اللعبة الكبرى مع روسيا والصين. روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين فرضت نفسها من خلال الدخول العسكري في حرب سوريا كقوة عالمية ووسيط إقليمي، وإن كانت تتوسع بأكثر من إمكاناتها. ولم يكن مشهداً مألوفاً حتى في ممارسة "غطرسة القوة" من جانب مسؤولين أميركيين وأوروبيين أن يأتي بوتين إلى دمشق، فيستقبل الرئيس بشار الأسد في مقر القوات الروسية بدل أن يستقبله الرئيس السوري في القصر الجمهوري، كما لو أن سوريا صارت "ولاية روسية". الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتدخل عسكرياً في سوريا وليبيا، مستعيداً "الميثاق الملي" للعام 1920، ولاعباً ورقة السلطنة حين كانت ليبيا من أتباعها وورقة الجنرال مصطفى كمال أتاتورك الذي "قاتل وجُرح في ليبيا" خلال الحرب العالمية الأولى. وأقل ما يريده هو حصة في النفط والغاز ومقعد إلى طاولة اللاعبين شرق المتوسط. إيران تتصرف كأنها تحكم بالفعل العراق وسوريا ولبنان واليمن. بحيث يتحدث مسؤول في الحرس الثوري الإيراني وخلفه أعلام حزب الله والحشد الشعبي وأنصار الله الحوثيين وميليشيات فاطميين وزينبيين. واللعبة في ليبيا أشد تعقيداً بسبب الصراع على النفط، حيث تتنافس فرنسا وإيطاليا، وتدعم قطر حكومة فايز السراج، التي هي مظلة للإخوان المسلمين مقابل دول عربية تدعم المشير خليفة حفتر الذي تدعمه روسيا.
والسؤال هو: هل هناك أفق لحلول؟ واحد من الأجوبة جاء في كتاب جديد تحت عنوان "نحو وستڤاليا للشرق الأوسط". مؤلفو الكتاب خبراء وأساتذة في التاريخ: باتريك ميلتون وبرندان سايمز ومايكل إكسويرثي. ومواده كانت مدار بحث في ورش عمل بين 100 خبير من أوروبا والشرق الأوسط بتمويل من كوربر فوندايشن وجامعة كامبريدج ووزارة الخارجية الألمانية. يستعيد الباحثون تاريخ أوروبا قبل العصرنة ويرون مثيله في الشرق الأوسط الحالي، ويركزون على حرب الثلاثين سنة. عام 1618، حدث تمرد بروتستانتي على الإمبراطورية الرومانية الكاثوليكية المقدسة، ثم تدخلت فيه مع الوقت القوى الأساسية مثل الدنمارك وفرنسا وإسبانيا والسويد. ولم تنته الحرب إلا عام 1648 عبر "معاهدة وستڤاليا" التي أرست سلاماً في القارة ضمن مبدأ احترام "سيادة الدول". والأهم هو "الآلية الشرعية لحل الصراعات" التي جرى ابتكارها في وستڤاليا، ويرى المؤلفون أنها "مسودة صالحة للشرق الأوسط" عبر "مقايضة كبرى" تجد تسويات لكل الصراعات في المنطقة اليوم.
لكن الصراعات في الشرق الأوسط أشد تعقيداً من تلك الصراعات الأوروبية وظروفها مختلفة. فهي خليط من سوء الأنظمة وسوء الصراعات الإقليمية والدولية على النفوذ. ومن الصعب صمود "نظام إقليمي جديد مقدس" بين أنظمة يزدري حكامها حكم القانون في بلدانهم. ولذلك تقترح سوزان ماهوني، نائبة مدير برنامج السياسة الخارجية في مؤسسة بروكنغز، حلاً آخر. ما هو؟ شيء يشبه "اتفاقات هلسنكي" الأوروبية عبر عملية تزاوج بين السياسة المحلية والإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وبين حوار أمني إقليمي. وليس ذلك سهلاً أيضاً. فالمنطقة يتصارع عليها من يريد العودة إلى القرن التاسع عشر، ومن يريد أخذها إلى القرن العاشر، ومن يريد لها أن تكون عاملاً قوياً مزدهراً في القرن الحادي والعشرين. ولا أحد يكتفي بالربح أو يعترف بالخسارة.