تعرض المرجع الأعلى في النجف علي السيستاني لكسر في عظم الفخذ الأيسر نتيجة التواء في الرجل اليسرى، يوم الخميس 16 يناير (كانون الثاني)، ما أثار مخاوف في العراق على صحته، وتحديداً في أوساط المحتجين ضد فساد الطبقة الحاكمة، كما في الخارج، إذ عبّر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في تغريدة على "تويتر" عن أسفه لتعرض السيستاني لتلك الإصابة.
وذكر المكتب الإعلامي للمرجع السيستاني، نقلاً عن مصدر مسؤول، إن "سماحة السيد (دام ظلّه) تعرض في الليلة الماضية لالتواء في الرجل اليسرى أدى إلى كسر في عظم الفخذ وستجرى له عملية جراحية هذا اليوم - إن شاء الله - بإشراف فريق طبي عراقي". وأضاف "نرجو من المؤمنين الكرام ألّا ينسوا سماحته في دعائهم".
وغادر السيستاني اليوم الجمعة 17 يناير (كانون الثاني) الحالي، مستشفى "الكفيل" في كربلاء بعد إجراء العملية الجراحية له، متوجهاً إلى مقر إقامته في مدينة النجف، فيما قال الفريق الطبي المشرف على علاجه إن العملية استغرقت نصف ساعة وتكللت بالنجاح.
وأعلن ممثل المرجعية في كربلاء أحمد الصافي، أن "السيستاني لم يدعُ لنفسه أثناء العملية قط، بل اقتصرت دعواه للعراقيين".
محتجون في البصرة يستشهدون بأقوال السيستاني الداعمة لحراكهم (أ. ف. ب.)
مرجعية وطن
في غضون ذلك، شهدت ساحات الاحتجاج في العراق حملات تعاطف كبيرة مع الحالة الصحية التي يمر بها السيستاني، ومخاوف على صحته، حيث يعتبرونه داعماً رئيسياً لمطالبهم، وسداً أمام محاولات السلطة الالتفاف عليها. ورفع المتظاهرون صورتين كبيرتين للسيستاني على المطعم التركي في ساحة التحرير في بغداد، كُتب على إحداها "قلوب الثوار معك... مشافى معافى مرجعية الوطن".
وكُتب على أخرى "أحباؤك معتصمو ساحة التحرير يتمنون لك الشفاء العاجل ويلتمسون العذر لعدم زيارتك، وذلك للواجب الوطني المعتصمون لأجله والذي طالبتنا بالاستمرار والثبات عليه".
أما في كربلاء، فتوجه ناشطون إلى المستشفى حيث رقد السيستاني للاطمئنان على صحته، فيما رفعوا لافتة كُتب عليها "من كربلاء المقدسة، قلوب الثائرين والمعتصمين معك أيها الأب العظيم... أدامك الله لنا وللعراق ذخراً".
رسائل أميركية وإيرانية
وتوالت رسائل الاطمئنان على صحة السيستاني من الولايات المتحدة وإيران، إذ كتب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو على "تويتر"، "نشكر الله أن صاحب السماحة آية الله السيستاني خضع لعملية جراحية ناجحة اليوم في العراق". وأضاف "أتوجه إلى الله مع ملايين العراقيين بالدعاء له، فهو يمثل لهم مصدراً للهداية والإلهام، اللهم أمنحه الشفاء العاجل والعمر الطويل". وكتب بومبيو تغريدته بثلاث لغات هي الإنكليزية والعربية والفارسية.
مایک پامپئو، وزیر امور خارجه آمریکا: «شکرگزارم که جراحی حضرت آیت الله سیستانی امروز در عراق با موفقیت انجام شد. دعای من و میلیون ها عراقی که آیت الله سیستانی برایشان منبع روشنگری و الهام است، همراه ایشان است. از خداوند می خواهم به ایشان شفای عاجل و عمر طولانی عطا کند. https://t.co/0GYS0e6rPG
— Secretary Pompeo (@SecPompeo) January 17, 2020
أما السفارة الأميركية في بغداد، فعلقت في بيان على إصابة السيستاني، وقالت "تلقينا بفرح عظيم نبأ نجاح جراحة المرجع الأعلى سماحة آية الله العظمى علي السيستاني". وأضاف البيان، "دور سماحة السيد علي السيستاني في تحقيق الاستقرار الدائم هو صمام أمان أساسي للعراق والمنطقة. نصلي لسماحته بفترة شفاء عاجلة".
في المقابل، أبرق المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، إلى السيستاني، للاطمئنان على وضعه الصحي. وجاء في برقية خامنئي، "بسم الله الرحمن الرحيم، سماحة آية الله السيد السيستاني دامت بركاته، السلام عليكم، قلقنا لنبأ العارض الجسمي الذي ألمّ بوجودكم الشريف. أسأل الله الكريمَ الشفاءَ العاجل لسماحتكم... والسلام عليكم ورحمة الله".
ويرى مراقبون أن الرسائل الأميركية والإيرانية تلك، تندرج ضمن التزاحم الأميركي - الإيراني في العراق، نظراً لتأثير السيستاني الكبير في العراق.
السيستاني ونظام ما بعد عام 2003
ومنذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ساهم السيستاني في إدخال التيارات الشيعية إلى العمل السياسي، وعمل على إرغام الإدارة الأميركية على إجراء الانتخابات التشريعية عام 2005، فضلاً عن كتابة دستور دائم للعراق، إلا أن انتقادات عدة وجِهت له إثر دعمه قائمة "الإئتلاف العراقي الموحد"، الذي كان يضم حينها أغلب التيارات الإسلامية الشيعية، لكنه عاد ليبيّن أنه خارج إطار الاصطفافات السياسية، حين قال إنه "يقف على مسافة واحدة من كل المرشحين".
وبدأت بوادر الخلاف بين السيستاني وبعض القوى السياسية الحاكمة وبالأخص الشيعية منها، قبل عام 2010، حين رفض مرات عدة لقاء رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، ما عده مراقبون رفضاً لإعادة تكليفه برئاسة الحكومة، فضلاً عن إغلاق بابه أمام الطبقة السياسية في تلك الفترة.
أما مقولة "المجرب لا يجرب"، فصدرت على لسان ممثل السيستاني أحمد الصافي في 22 أغسطس (آب) 2014، قبيل الانتخابات البرلمانية في فترة الحكم الثانية للمالكي، ومثلت إحدى أقوى الضربات التي تلقاها الأخير الذي كان يُعد أبرز حلفاء طهران في الساحة السياسية العراقية.
صراع المدرستين
كما يعتبر مراقبون أن صراع المرجعيات بين مدينتي قمّ الإيرانية والنجف العراقية ليس جديداً، بل استمرار لنزاع تاريخي حول تسيّد المشهد الشيعي في العالم الإسلامي، لكن محوره يدور حول الخلاف الفقهي بين المدرستين بما يتعلق بمفهوم "ولاية الفقيه"، الذي تتخذه مرجعية خامنئي وسيلةً للتحكم بالسلطة في إيران وتحاول تصديره للتحكم ببقية البلدان ذات الغالبية الشيعية، بينما لا تتبنى مرجعية النجف مبدأ ولاية الفقيه، بل تعتمد على النصح والإرشاد في ما يتعلق بقضايا العراق الداخلية.
ويبدو أن هذا الخلاف الفقهي بين المدرستين، تشعب بعد عام 2003، بدخول قوى سياسية مؤمنة بـ"ولاية الفقيه" إلى الساحة السياسية العراقية، إذ أخذ شكل الصراع يتبلور على أساس العلاقة بالنظام السياسي الجديد.
وفي عام 2014 بعد اجتياح تنظيم "داعش" لمدينة الموصل، أصدر السيستاني فتوى "الجهاد الكفائي"، لكنه استمر بالتأكيد على عبارة "المتطوعين في القوات الأمنية"، وضرورة حصر السلاح بيد الدولة، ما يشير إلى رفضه الواضح للميليشيات المسلحة الموالية لإيران، والتي اتخذت من فتوى السيستاني وسيلةً لزيادة نفوذها، على الرغم من تأكيد مرجعية النجف الدائم على رفض التدخل الإقليمي والدولي في العراق.
ولم يسبق أن أيّد السيستاني احتجاجات كما حصل أخيراً، حيث دعم المحتجين العراقيين ووصف معركتهم بأنها أكثر ضراوة من المعركة على الإرهاب، فيما وصف خامنئي الاحتجاجات العراقية واللبنانية بأنها "أعمال شغب تديرها أميركا وإسرائيل وبعض دول المنطقة". وفيما دعا مسؤولون إيرانيون الحكومة العراقية إلى التصدي بالقوة للتظاهرات، حض السيستاني القوات الأمنية على الكف عن استخدام العنف ضد المحتجين والاستجابة لمطالبهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علاقة ود وتكامل
من جهة أخرى، قال رئيس مجموعة الهدف للدراسات الاستراتيجية هاشم الكندي، إن "مَن يشيع الخلاف بين السيستاني وخامنئي لا يمتلك معلومات عما يجري بين الحوزات سواء في النجف أو قمّ"، واصفاً العلاقة بينهما بأنها "علاقة ود وتكامل بين علماء نذروا أنفسهم لخدمة الإنسانية والإسلام". وأضاف أن "ما حدث بعد اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ووصف السيستاني لهما بعبارات لم يقلها بحق أحد من قبل على الرغم من اقترابهما من خامنئي يدلل على أن لا خلافات بين الطرفين".
وأشار الكندي إلى أن "خامنئي يصف السيستاني بأنه رحمة الله المهداة إلى العراقيين... والسيستاني يقول عن خامنئي بأنه قائد عظيم ورجل كبير في خدمة الإسلام"، لافتاً إلى أن "هذه العوامل تدلل على أن تصورات التقاطع بينهما غير حقيقية".
وعن تعاطي المحتجين مع وعكة السيستاني الصحية، بيَّن أن "التعبير عن الألم لما أصاب السيستاني عبّر عنه الجميع، المحبون وغيرهم، وحتى السفارة الأميركية عبّرت عن هذا الشيء".
وأشار إلى أن "إيران كانت داعمة للعملية الديمقراطية في العراق، من خلال دعم مجلس الحكم منذ البداية، في عام 2003، على الرغم من دعمها لجبهات المقاومة ضد الأميركيين، وهذا ما يعلنونه ويفتخرون به"، مردفاً "عندما تخلى الجميع عن العراق دعمته إيران في إطار الحرب على تنظيم داعش".
حماية من المشروع الإيراني
"تثبت الأدلة أن التشيّع العراقي راسخ وغير خاضع للتجربة الإيرانية، وهذا ما تؤكده مواقف السيستاني بمواجهة محاولات حوزة قم للسيطرة والنفوذ على شيعة العراق"، وفق الكاتب والصحافي أحمد عبد الحسين.
ويعتبر عبد الحسين أن "السيستاني يمثل صمام أمان أمام كل المشاريع الخارجية، ومحاولات بعض القوى فرض السيطرة على الوضع العراقي بقوة السلاح". ويضيف أن "أشد العلمانيين صرامة احتفوا بالسيستاني ويريدون تصوير أنهم ليسوا ضد الإسلام بمحتواه العام، لكنهم ضد قوى الإسلام السياسي على الساحة العراقية". وتابع أن "موقف العلمانيين شكّل رسالة واضحة أن السيستاني يحمي من مشاريع إيران في الداخل العراقي، فضلاً عن تشديده الدائم على حصر السلاح بيد الدولة".
النجف وتصدير الثورة
وأشار عبد الحسين إلى أنه "واضح أن النظام الفقهي في إيران متلبس بمشروع للسيطرة على شيعة العالم، وهو مشروع سياسي مثبت بالدستور الإيراني وفق مبدأ تصدير الثورة، وهذا لا يتوافق مع رؤية مرجعية النجف والسيستاني تحديداً التي تؤمن بالدولة المستقلة"، لافتاً إلى أن "حوزة النجف عبر التاريخ اقتصرت على الدروس الفقهية والأصول، وغير حاملة لمشروع سياسي".
ولفت إلى أنه "عند اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 كان واضحاً عدم نيلها تعاطف زعيم حوزة النجف أبو القاسم الخوئي، في حين تعاطف معها المرجع محمد باقر الصدر"، مبيناً أن "السيستاني يمثل الخط الوارث لحوزة الخوئي".
وتابع أن "استياء مرجعية السيستاني من النفوذ الإيراني على مفاصل الدولة العراقية بدا واضحاً في السنوات الأخيرة من خلال خطبها"، مردفاً أن "مرجعية السيستاني حريصة على تقديم الهوية الوطنية على الهوية الدينية والطائفية".
وأشار إلى أن "السياسيين المرتبطين بإيران يعرفون تقاطع مرجعية النجف مع إيران، للحد الذي حاول فيه المالكي استقدام المرجع الإيراني محمود الهاشمي، ومحاولة تكريسه مرجعاً يخلف السيستاني، ولم يُكتب له النجاح بسبب خصوصية ورسوخ حوزة النجف"، لافتاً إلى أن "تلك الخطوة تمّت بالضرورة بالتوافق مع إيران للسيطرة على المرجعية في النجف".
مؤسسة علمانية
من ناحية ثانية، قال الكاتب الصحافي حامد السيد إن "منهج السيستاني يعتمد الحوزة النجفية التقليدية التي تتخصص بالفقه وتعزل نفسها عن التصدي للسياسة، وتدعو أهل الخبرة للعب ذلك الدور"، مردفاً أن "ذلك يعني أنها مؤسسة علمانية وإن لم تنتمِ إلى الجسم العلماني". أن "غياب السيستاني ونهجه يشكل خطراً وجودياً على الشيعة قبل غيرهم، لأن هذا المنهج هو الذي يحمي بيضة التشيّع في العراق والمنطقة". وتابع أن "المخاوف الشعبية تتعلق بفقدان منهج السيستاني في العراق"، مبيناً أن "منهج مدرسة السيستاني سيتكرّس في حوزة النجف، لأنه راسخ بالطريقة ذاتها من خلال مَن سبقوا السيستاني بقيادة المرجعية".
انحياز للمطالب الشعبية
وعن تعاطي المحتجين مع الوعكة الصحية التي أصابت السيستاني، بيَّن حامد السيّد أنه "لا رصيد للمحتجين سوى السيستاني، جربوا أن يكون مقتدى الصدر جزءاً من التحالف المدني والقوة الشعبية لحماية الاحتجاج، لكنه يبقى صاحب مزاج سياسي"، لافتاً إلى أن "السيستاني بلا طموح سياسي، وهو متصدي ومنحاز لإرادة الشعب العراقي وتحديداً مَن هم في الساحات".
وأشار إلى أن "السيستاني وفق قناعات المحتجين بمختلف مشاربهم، يمثل رصيدهم الوحيد للوصول إلى بر الأمان وتحقيق المطالب، لأنه تبنى وانحاز إلى تلك المطالب"، مردفاً أن "السيستاني يشعر أن هناك ضرورة للخلاص من الطبقة السياسية التي تتحدث باسمه وتنتحل صفة التشيع وتحاول زجّ العراق في معارك وحروب بالنيابة عن دول أخرى".
ولفت إلى أن "التعاطف مع السيستاني من الطبقات العلمانية وحتى المجتمع الدولي، متعلق بنهج السيستاني، كونه مرجعاً متخصصاً بالفقه ويؤمن بمرجعية الدولة كحاضن أساس للشعب".