لا تكاد تنطفئ النيران في مناطق ما يسمى بـ"الهلال الشيعي" أو العواصم الأربع زائدة طهران، حتى تشتعل بوتيرة أشد قسوة، إن كان في إيران أو لبنان والعراق، فيما لا تزال سوريا واليمن بسبب ظروف الحرب الدائرة فيهما بين "الحفرة والقاع".
وما ذلك في تقدير المرجع العراقي علي السيستاني، إلا جراء قسوة الظروف التي جعلت عراقيين غاضبين ومثلهم إيرانيين ولبنانيين "يحتقرون حياتهم"، على نحوٍ مما نظّر العالم النفسي إيريك هوفر في كتابه "المؤمن الصادق"، الذي ترجمه المفكر السعودي الراحل غازي القصيبي في آخر أيام حياته، وتمنى من قومه العرب أن يختبروا نظرياته ويراقبوا تفسيراته لظواهر العنف والإرهاب في مدنهم وأقاليمهم.
طريقهم الأوحد
أما السيستاني، فإنه يقول صراحة "إن الناس لم يخرجوا إلى المظاهرات في الشوارع إلا لأنهم لم يجدوا غيرها طريقًا للخلاص من الفساد". فيما يعقب على ذلك القول الكاتب اللبناني غسان شربل مضيفاً أنه "كما في العراق كذلك في لبنان... حيث تفشل الحكومة في إنقاذ الاقتصاد واسترجاع السيادة فتغطي فشلها بقتل المتظاهرين".
وبدلاً عن مراجعة السلطات الإيرانية سياساتها التي دفعت بطهران والأقاليم العربية التي فاخرت باستتباعها نحو الاحتقان والحرائق والدماء؛ أعلن البرلمان الإيراني في إحدى جلساته التي أعقبت مقتل قاسم سليماني، استمراره في النهج الذي مضى في سبيله الجنرال الطائفي.
وقال رئيسه علي لاريجاني حسب وكالة "أرنا" الايرانية، إن المؤسسة التي يترأسها قامت بتعديل قانون سابق لمواجهة الإجراءات الأميركية، بـ «إقرار تخصيص 200 مليون يورو لدعم فيلق القدس»، وأثناء بحث مشروع القانون العاجل وقبل التصويت عليه، قال لاريجاني: «أعلنّا في 23 أبريل (نيسان) 2019 القيادة المركزية الأميركية (سنتكام) والقوّات والمؤسَّسات التابعة لها إرهابية. لكن مع الإجراء الأميركي وأوامر ترمب باغتيال سليماني، وتنفيذ البنتاغون لهذا الأمر، بحثنا اليوم (أمس) في البرلمان إدخال تعديلين عاجلين على هذا القانون».
وأضاف، حسبما ترجم المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، «وفقاً لهذا التعديل، سيعتبر من الآن فصاعداً أعضاء البنتاغون والشركات التابعة له وقادته ومسبِّبي اغتيال سليماني جزءاً من (القوات الإرهابية). الأميركيون كانوا يظنّون أنّ سليماني هو العنصر الأساسي في قضية المقاومة في المنطقة، وكان ترمب يعلن أنّه كان يجب علينا حذف سليماني قبل هذا، لكنّه لا يعلم أنّ جميع أفراد الأمّة الإيرانية داعمة للمقاومة»، بحسب قوله.
وأوضح لاريجاني أنّه «خلال تعديل القانون السابق، خصَّصنا الميزانية الكافية والمقدَّرة بـ 200 مليون يورو من صندوق التنمية الوطنية لدعم فيلق القدس، الذي يحمل على عاتقه الأمن في المنطقة».
مزيد من الانفصال
لكن تلك الملايين من غير المرجح أنها ستغير شيئاً من الواقع في ظل الظرف الايراني الصعب، جراء فرض العقوبات الأميركية، فمع انقلاب السحر على الساحر في الداخل الايراني، لا يرى المراقبون أن بوسع طهران استعادة زمام المبادرة، على النحو مما سبق في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فبسبب سياسة الحزم الاقتصادي والعسكري الذي ينهجه ترمب حتى قبل انتخابه، لا يسع طهران غير المقاومة، خصوصاً بعد اتساع دائرة المواجهات داخل مناطق نفوذها في إيران وبغداد وبيروت وحتى سوريا، ولجوئها هي ووكلائها إلى حلول القمع التقليدية، كوسائل خلاص من المأزق.
وهي السياسة التي يرى الصحافي الايراني جواد كوروشي أنها لن تجدي على المدى البعيد، إذ صدقت توقعاته في مقالة سابقة له نهاية العام الماضي، بتجدد الاحتجاجات في طهران، حتى وإن بدا أنها انتهت، أو في أحسن الأحوال "ستبقى آثارها طويلاً، وربما تحمل مؤشرات مهمة لمستقبل إيران"، واعتبرها نقطة تحول في تاريخ العلاقة بين النظام والسلطة، بوصف الاحتجاجات في نظر كروشي وردّ فعل الحكومة عليها، أدت إلى "اكتمال عملية الانفصال التي بدأت منذ عقدين على الأقل بين الحكومة والمواطنين وتعمقت تدريجياً لتصبح الاحتجاجات وقمعها الشعرة التي قصمت ظهر البعير"، حسب تدوين له عبر موقع "ايران انترناشيونال" المعارض.
غلاف كتاب المؤمن الصادق
"المؤمن الصادق" يُبصر طريقه
في غضون ذلك يأتي هوفر ليوافق السيستاني في تفسير مواجهات العراق وأخواتها، حينما أعاد كثيراً من الحركات الثورية والاحتجاجات إلى "احتقار الحاضر". وهي الحالة التي قال إنها "تجيء بعد القدرة على التكهن بما سيجيء بعدها. إن القانعين الراضين لا يستطيعون أن يكونوا بارعين في التكهن. ومن ناحية أخرى، فالذين يحاربون الحاضر هم الذين يزرعون بذور التغيير واحتمالات البدايات الجديدة".
ومضى في تشريح ذلك نفسياً بتأكيد أن "الشعور بأننا نحيا حياة آمنة سعيدة يجعل كل الحقائق الأخرى مهما كانت محتملة الوقوع، خيالية وغامضة. من هنا نجد أن أولئك الذين يرفضون الحاضر ويوجهون قلوبهم وأنظارهم إلى الأشياء التي سوف تحدث، يستطيعون توقع التغيير، سيئاً أو حسناً. وهكذا نرى أن المحبط والمؤمن الصادق أكثر قدرة على التنبؤ بما سيجيء في المستقبل من القانع الذي لا يود سوى الحفاظ على الوضع القائم. (كثيراً ما يكون المتطرفون، لا الخيرون، هم الذين يعثرون على الخيوط التي تقود إلى الحلول القادمة في المستقبل)". فهل سينطبق ذلك على أولئك الثائرين ضد نفوذ إيران في مناطقهم؟
القنبلة هي حل إيران المتبقي
بالنسبة للكاتب العربي المتخصص في الشأن الإيراني عبدالوهاب بدرخان، فإن التصعيد والحرائق التي تشهدها مناطق الهلال الايراني، وصلت من السوء ما يشبه مرحلة اللاعودة، جعلت الهلال يتحول "هلال بؤس وإفقار"، مرجحاً أن خطر الحرب قائم مع انهيار الاتفاق النووي، "فحصول إيران على "القنبلة" بات سبيلها الوحيد للتخلّص من ضغوط العقوبات ومخاطر التلاشي المستمر لمشروعها الإقليمي".
وأبدى أسفه لأن انهيار السيطرة الإيرانية، هو الآخر لن يكون بلا ثمن عربي، إذ اعتبر أنه "لا مبالغة في أن الهلال الإيراني استهلك عهد أمجاده وبدأ يتلاشى، ليصبح بالأحرى "هلال البؤس والإفقار". لكن تراجعه وتفكّكه سيعودان بالوبال نفسه أو بأضعَافه على الشعوب الإيرانية والعربية التي عانت صعوده".
أما كيف حكم على الهلال الايراني بالأفول وهو الذي يراه بعض مريديها يوشك أن يصبح بدراً، أجاب "كان 2019 عام بداية الأفول، ليس بفعل العقوبات الأميركية فحسب، بل لأن اندفاعات التخريب الإيراني في سوريا والعراق واليمن ولبنان بلغت ذروتها ولم يتضح لإيران أنها اقتربت من تحقيق أهدافها. على العكس، وجدت نفسها في مآزق عدّة: تململ داخلي يطالب برحيل كبار رموزها وتغيير النظام، قلّة الموارد لمواصلة تمويل أذرعها الإقليمية، ومواجهة شبه مباشرة غير مسبوقة مع الولايات المتحدة".
أفول الهلال والسنة الأصعب
وكان الأخطر أن إيران أصبحت مرفوضة شعبياً بنسبة كبيرة في العراق ولبنان، واضطرّ وكلاؤها حسب بدرخان في بغداد لطرح الحرب الأهلية (الشيعية - الشيعية) كخيار للدفاع عن نفوذها، فيما يعاني وكيلها الإقليمي الأبرز ("حزب الله") من انكشاف "النظام" الذي أقامه في لبنان وبات شائعاً اتهامه بأنه حامٍ لمنظومة الفساد وشريكٌ فيها. لكن السنة 2020 التي بدأت باغتيال قاسم سليماني وسلسلة تداعيات داخلية أعادت المتظاهرين الى شوارع إيران، تنذر بأنها ستكون السنة الأصعب على لبنان والمنطقة، ولم يعد خافياً أن الولايات المتحدة تعمل على مسارات عدة تجعل من طهران وكل "عواصمها" العربية بؤر تأزّم واحتقان واضطراب تنذر بتفجّرات غير قابلة للاحتواء".
وعلى سبيل التوصيف لا الشماتة، يصف الوقائع التي بنى عليها بدرخان حكمه بتراجع النفوذ الايراني، فقد "أصبحت الخريطة واضحة الآن، عواصم" إيران الأربع، ومعها العاصمة الإيرانية نفسها، تغرق في أوهام نظام الملالي ومغامراته. من أطلق على "الهلال الشيعي" اسمه صار يفضّل الإشارة إليه بـ"الإيراني" أو "الفارسي"، ربما لأن التطوّرات كشفت أنه مشروعٌ سياسي وتوسّعي يرتبط أساساً باستعادة أحلام إمبراطورية غابرة ويتخذ من الشيعة أداةً ورأس حربة".