قتل متظاهران عراقيان وأصيب العشرات بجروح اليوم الجمعة، خلال مشاركتهم في تظاهرة مناهضة للحكومة في العاصمة بغداد، وفق الشرطة ومصدر طبي.
وقال المصدر أن أحد القتيلين أصيب بالرصاص الحي والثاني بقنبلة غاز مسيل للدموع. وحصلت أعمال العنف بعد مشاركة الآلاف في تظاهرة مناهضة للوجود الأميركي. كما أفيد عن فقدان ثلاثة فرنسيين وعراقي، أعضاء في منظمة كاثوليكية غير حكومية في بغداد.
في المقابل، شارك الآلاف في التظاهرة التي دعا إليها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، في ساحة الحرية بمنطقة الجادرية قرب جامعة بغداد.
وتجمّع الآلاف من المشاركين في التظاهرة منذ ساعات الصباح الأولى، وسط إجراءات أمنية مشددة، مع شمول القطوعات الأمنية عدداً من الطرق والجسور المؤدية إلى مكان التظاهرة، منها جسور الجادرية والطابقين وتقاطع مصفى الدورة، وقطع في منطقة "السدة" وتقاطع المسبح وتقاطع كهرمانة إلى ساحة الفردوس.
فيما أفاد شهود بأن منظمة بدر وبعض القوات التابعة للحشد الشعبي كانت إحدى الجهات المُشرفة على أمن التظاهرة.
في غضون ذلك، شددت السفارة الأميركية إجراءاتها، فيما أضافت عدداً من الكتل الخرسانية في محيطها، فضلاً عن تعليق ملصق تحذيري يطالب بعدم اجتيازه أو التعرض لخطر.
وحمل المتظاهرون أعلاماً عراقية ولافتات منددة بالوجود الأميركي.
وعلى الرغم من اشتراك أغلب الفصائل المسلحة الموالية إيران في التظاهرة، فإن مراقبين يرون أن تلك الفصائل استغلت دعوة الصدر لأنصاره، لأنه الجهة الوحيدة القادرة على التحشيد الجماهيري.
وفي السياق ذاته، كانت صفحات مقرّبة من مقتدى الصدر دعت قبيل التظاهرة إلى "منع السياسيين والميليشيات المنفلتة" من الاشتراك في التظاهرة، ما يعد إشارة إلى بعض الفصائل الموالية إيران التي توجد بينها والصدر خلافات قديمة، حسب مراقبين.
مبادرة الصدر
في غضون ذلك، أرسل الصدر رسالة إلى المتظاهرين تضمّنت مبادرة قال فيها إن "الهدف جدولة خروج القوات الأميركية من العراق"، مبيناً ذلك في خطوات عدة، تبدأ بإغلاق "القواعد العسكرية كافة"، و"مقرات الشركات الأمنية"، إضافة إلى إغلاق الأجواء العراقية "أمام الطيران الحربي والاستخباراتي المحتل"، و"إلغاء الاتفاقات الأمنية كافة لغياب التوازن".
فيما طالب دول الجوار بـ"عدم التدخل في تعاملنا مع المحتل في حال بقائه أو رفضه إخراج قواته".
لكن، اللافت هو أن الصدر بيَّن أن تنفيذ تلك البنود سيؤدي إلى التعامل مع أميركا على أنها "دولة غير محتلة"، مردفاً "وإلا فهي دولة معادية العراق، إذا خالفت الشروط والمدة المحددة".
لكنه عاد ليبين أن التزام أميركا بتلك الشروط يؤدي إلى "إعلان توقف مؤقت للمقاومة إلى خروج آخر جندي، والعمل على معاقبة كل من يحاول خرق الهدنة السيادية من أي من الطرفين".
وعلى الرغم من إعلان فصائل وقوى سياسية عدة قريبة من إيران اشتراكها في التظاهرة، فإن الرسالة التي أرسلها زعيم التيار الصدري تضمنت نقاطاً خلافية كثيرة، كان أبرزها الدعوة إلى "دمج الحشد الشعبي ضمن إطار وزارتي الدفاع والداخلية"، وهذا ما يرفضه قادة الحشد والقوى السياسية المساندة له، فضلاً عن مطالبته بـ"منع كل الجهات الرسمية وغير الرسمية من التواصل الخارجي، إلا من خلال القنوات الرسمية للدولة بموافقات مسبقة".
ردود فعل سياسية
وفي أول رد فعل سياسي على التظاهرة، قال رئيس الجمهورية برهم صالح، في تغريدة على "تويتر"، إن "العراقيين مصرون على دولة ذات سيادة كاملة غير منتهكة، خادمة لشعبها ومعبرة عن إرادتهم الوطنية المستقلة بعيداً عن التدخلات والإملاءات من الخارج، دولة ضامنة لأمنهم وحقوقهم في الحياة الحرة الكريمة، دولة في أمن وسلام مع جيرانها".
من جانبه قدّم أمين عام حركة "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي، شكره لمقتدى الصدر، موجهاً رسالة للرئيس دونالد ترمب، قائلاً فيها إن "المليونية كانت واضحة، وبأن رسالة الشعب الرافضة كانت واضحة، وأنك إذا لم تخرج بإرادتك فإنك ستخرج رغماً عن أنفك، وهذا وعد المقاومين".
عودة القطيعة
في المقابل، يرى مراقبون أن أكثر ما يهدد قوة التيار الصدري وشعبيته في الوسط الشيعي هو الفصائل الموالية إيران، وفي حين بينوا أن الصدر استطاع احتكار قرار هذه التظاهرات رغم اشتراك الجميع بها، ولفتوا إلى أن مطالبته بدمج الحشد واحترام السيادة في سياق دول الجوار ومنع تعدد مصادر القرار العراقي، تأتي متناغمة مع مطالب المحتجين ورسالة واضحة لإيران والفصائل المتحالفة معها.
ورأى رئيس المجموعة المستقلة للأبحاث منقذ داغر، أن "من المحتمل عودة القطيعة بين مقتدى الصدر والقوى الموالية طهرن في ضوء السلوك السابق للصدر"، عاداً هذا التحالف بـ"المؤقت لعبور هذه المرحلة".
وأوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن "موقف الصدر من الحشد الشعبي قديم، ويرى بوجوب دمجه مع القوات الأمنية، وقد يكون هذا واحداً من الأمور التي دفعته إلى التحالف المؤقت معهم لإقناعهم به".
وتابع، أن "أكثر ما يهدد قوة وشعبية التيار الصدري في الوسط الشيعي هم حملة السلاح من القوى والفصائل الذين يتناقض الصدر معهم"، مبيناً أن "حل تلك الفصائل ودمجها في المؤسسة العسكرية يصب في مصلحة التيار الصدري".
وقال، إن "تلك الفصائل ستحاول جاهدة عدم تطبيق هذا الدمج، لكن من الواضح أن الأمور لا تجري كما يريدون، حيث إن هناك أحاديث عن حوارات بين السعودية وإيران، وأن الأخيرة بدأت بسبب الضغوط عليها في الداخل، خصوصاً بعد مقتل سليماني بدراسة إمكانية تخفيض شروطها"، مرجحاً "رفع إيران غطاءها عن هذه الفصائل بما لا يترك خياراً لها سوى الاندماج في المؤسسة العسكرية".
لعبة مزدوجة
في السياق ذاته، قال مستشار المركز العربي للدراسات يحيى الكبيسي، إن "موقف الصدر لم يتغير طوال السنوات الماضية، وكان دائماً يعطي مواقف متناقضة، ويحاول الإمساك بما يخدم مصالحه وصورته قائداً سياسياً، وبالتالي لا وجود لإمكانية التقارب مع قوى اليمين الشيعي المُرتبطة بإيران".
وأضاف لـ"اندبندنت عربية"، "يعي الصدر أن كثيراً من أتباع التيار كان لهم رأي مختلف سياسياً، واشتركوا في حركة الاحتجاج بقوة دون أمر مباشر، لهذا هو يحاول أن لا يخسر جمهوره الثوري هذا، ولا يستطيع خسارة الجمهور الآخر المُقلد له".
وبيَّن أن "الصدر يحاول مسك العصا من المنتصف بين الطرفين، وأن يذهب في بعض الأحيان إلى أقصى اليسار في دعم حركة الاحتجاج، لكنه مُضطر في أحيانٍ أخرى إلى الانزواء يميناً للحفاظ على وضعه في البيت الشيعي، وهذا جزءٌ من تناقضات التيار الصدري"، لافتاً إلى أن "اللعبة المزدوجة هي ما تُميز التيار الصدري، وأعتقد أنها ما زالت مستمرة".
شهر عسل قصير
من جانبه، وصف الباحث في الشأن السياسي عقيل عباس تظاهرة اليوم بأنها "وحدة نادرة مع الفصائل المسلحة التي تنضوي في محور المقاومة، ويبدو أنه شهر عسل قصير بين التيار الصدري وهذه الفصائل"، لافتاً إلى أنه "من الواضح في بيان الصدر أن الخلافات التي تفصل التيار الصدري مع تلك الفصائل كبيرة ومهمة".
وأوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن "الصدريين استفادوا من تلك التظاهرة بشيئين، وهما تأكيد انتمائهم إلى سجلهم التاريخي للمقاومة وخطابها، لكن المهمة الأخرى التي أدّتها تظاهرات اليوم أن الصدر أكد مجدداً خطابه الإصلاحي بعد أن بدا أنه تراجع عن ذلك في الأسبوعين الماضيين بعد اغتيال سليماني".
وأشار إلى أن "مطالبته بدمج الحشد واحترام السيادة في سياق دول الجوار ومنع تعدد مصادر القرار العراقي، تأتي متناغمة مع مطالب المحتجين، وهي رسالة واضحة لإيران والفصائل المتحالفة معها".
ودون أن يسمها دعا إلى إجراءات واضحة تمنع نفوذ هذه الفصائل، مبيناً أن "التظاهرة أكدت بالنسبة إلى الصدريين أنهم ما زالوا يمتلكون الشارع وقادرون على إخراج أعداد هائلة مقابل عدم قدرة الفصائل الأخرى على إخراج هذه الأعداد رغم اشتراكهم فيها".
رسالة تهدئة
من جهة أخرى، قال الباحث والأكاديمي باسل حسين إن "لا ثمة تفسير أو توقع خطي في خطابات مقتدى الصدر، فالثابت هنا هو التحوّلات اللا خطية والانتقال من النقيض إلى النقيض، وهي لعبة سياسية استحوذت على سلوك مقتدى الصدر، وعدت بالنسبة إليه امتيازاً لن يستطيع أحد مجاراته فيها، وخطاب اليوم يأتي ضمن هذا السياق".
وأضاف، أن "الصدر أوصل رسالة واضحة من أنه مع التهدئة وعدم التصعيد مع أميركا، وإتاحة الفرصة لاختيار رئيس وزراء يكون طرفاً فاعلاً فيها مع تضمين بعد دلالي يتعلق بأنه لا يزال متمتعاً بقدرته المستمرة على تحشيد الشارع مع ضعف شركائه في التظاهرات من فصائل الحشد في ذلك، فضلاً عن عدم الانسياق وراء مطالباتهم التصعيدية وبناء خط فاصل بينه وبين سلوكهم ومطالباتهم التصعيدية".
ولفت إلى أن "دعوته لتجميد عمل المقاومة في جوهره إعلان عن إنهاء لمرحلة تصعيدية وبداية لمرحلة جديدة، والرجوع إلى طاولة التفاوضات السياسية".
وعن الدعوة إلى دمج الحشد بالقوات العراقية بيَّن حسين أن "ذلك يعني العودة مرة أخرى إلى التقاطع مع قيادات الحشد التي يرى فيها تهديداً جدياً لقوته ونفوذه واستقرار الدولة"، مردفاً "تلك الخطوة ستعيدنا إلى نقطة ما قبل مقتل سليماني والمهندس مع اختلاف أنماط علاقات القوة لصالح الصدر".