هل ما زال التعليمُ كالماءِ والهواءِ عربياً؟ أم أدّى تلوث الهواء وشحّ الماء إلى تعديل في مكانته وتغيير بأهميته؟ ما زال الصغار يكتبون ملايين الأسطر في حصة الإنشاء عن أهمية التعليم في حياة الإنسان، ودور المعرفة في تشكيل الوجدان، ومغبة التسرّب من المدرسة، وأثره المدمر على مسيرة الأمة.
يكتبون ويكتبون ويكتبون، ثم يخرج كثيرٌ منهم من حصة الإنشاء لينشئ صفحة على (فيسبوك) مطالبة بإغلاق المدرسة، لأنها بلا فائدة أو مُحاكمة المُدَرِسة، لأنها ظالمة أو غائبة أو مُغيبة.
أمَّا أولياء الأمور فينخرطون إمّا في مجموعات (واتس آب) تصبّ الغضب على وزارات التعليم، أو تنظم الجماهير المتوجهة إلى (سناتر) مراكز الدروس الخصوصية بديل المدرسة في العصر العربي الحديث، أو تجييش الحشود من أجل محاربة خطة الدولة في إصلاح التعليم أو تطوير التعلّم أو تعديل المنظومة.
صراعات وهدوء نسبي
يحدث هذا في الدول العربية التي ما زالت تتمتع بالأمن والأمان، والاستقرار والاستمرار، أو تلك التي خرجت بسلامٍ نسبيّ بعد هبوب رياح ربيعية ممطرة قبل عقدٍ أو أقل.
أمَّا الدول العربية التي ما زالت رازحة تحت إمرة "الربيع" وجمرة التغيير وكابوس التعديل، فالوضع يختلف قليلاً، إذ الصغار ربما يكتبون عن أهمية التعليم حال توافره، أو يتذكّرون وقت كانوا يتعلمون قبل هبوب رياح التغيير.
أمَّا مدارسهم فمنها ما أُغلق، ومنها ما تهدّم على رؤوس من فيها، ومنها ما تحوّل إلى مستشفى أو ثكنة عسكرية أو مخبأ لميليشيا، وبطبيعة الحال، فإن الأهل بين نارين: نار الاقتتال والضلوع فيه أو الهرب منه إلى المخيمات، أو نار البحث عن مدرسة لم يعد لها وجود دون التدقيق فيما تقدّمه من محتوى أو مستوى.
أطفال العرب
مستوى التعليم في العالم العربي ومحتوى ما يقدّمه للصغار والشباب الذين يشكلون نحو 54 في المئة من مجموع العرب لم يعد قابلاً للبحث والتفنيد في مجلد سنوي أو تقرير تربوي أو حتى حصر أكاديمي.
في العام الـ2020 من الألفية الثالثة، تفرّقت مسؤولية تعليم الأطفال العرب بين منظمات تعني بالهجرة واللجوء، ومؤسسات تختص بالأمراض والفيروسات، وجمعيات تعمل على منع زواج الأطفال وختان الإناث واستعباد الذكور، وهيئات مهمتها رصد عمالة الأطفال، وأخرى تحصي زملاءهم ممن لا مأوى لهم أو المُعنّفين.
التعليم تحوّل إلى قوة طاردة للصغار بسبب الحفظ والتلقين والجمود (أ.ف.ب)
لكن، لأسباب عدّة يظل التعليم هاجساً ووسواساً، واتهاماً ودفاعاً، وفي مناسبة "اليوم الدولي للتعليم" الذي يحتفل به العالم أو يؤبّنه أو يتذكّره للعام الثاني على التوالي في يوم 24 يناير (كانون الثاني) تتواتر الدفاعات رداً على الاتهامات فيما يختص بتعليم الصغار.
تشير وثائق الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى أن هذا اليوم أصبح منذ عام 2018 يوماً دولياً للتعليم، احتفاءً بالدول التي يضطلع بها التعليم في تحقيق السلام والتنمية.
وهذا العام، أعلنت منظمة "يونسكو" التابعة إلى الأمم المتحدة، أن الاحتفال منصب على التعليم والتعلم الناتج عنه كأهم مورد متجدد وحق أساسي ومنفعة عامة، ومضت "يونسكو" في سرد ما يتيحه التعليم من فرص تحسّن معيشي لسكان الأرض، وحفاظ على الكوكب، وتدعيم للرفاهية المشتركة، وتعزيز السلام وترسيخ الأمن. وأنهى الطالب القارئ أهم الأخبار الفقرة بالعبارة الخالدة "التعليم كالماء والهواء".
اليوم الدولي للتعليم
الإشارة إلى "اليوم الدولي للتعليم" وقراءة ما جاء على موقع "يونسكو" أمام جموع الطلاب فيما تبقّى من طابور الصباح في المدرسة المصرية الحكومية لم ينجم عنه سوى مصمصات شفاه وهمهمات كلام.
لكن، ما همست به إحدى المعلمات في أذن زميلتها لخّص حالة الوجوم الناجمة عن سماع محتويات الخبر، "أسمع كلامك أصدقك... أشوف أمورك أتعجّب".
ليس هناك أكثر من الكلام عن التعليم وأهميته، وليس هناك أعتى من الجهود المبذولة لتحسين التعليم والارتقاء بشأنه، وليس هناك أشهر من عبارة "التعليم كالماء والهواء" التي يُدمجها كل طالب يكتب موضوع إنشاء عن قيمة التعليم، وترسمها كل إدارة تعليمية على جدار المدرسة، ويلجأ إليها كل برنامج تلفزيوني يتطرق إلى مكانة التعليم.
"اليوم الدولي للتعليم" متزامنٌ مصادفة وتواتر مناسبات وذكريات اشتعال ثورات عربية في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، لكنه تزامن عبثي، فجانب معتبر من إشعال تظاهرات الاحتجاج ومسيرات الغضب ومطالبات التغيير مردّه الرئيسي كان التعليم وما آلت إليه أوضاعه.
حال التعليم والديموقراطية
في مثل هذه الأيام قبل ثماني سنوات، وتحديداً في أواخر عام 2011، نشر "مركز كارنيغي للشرق الأوسط" تقريراً عن حال التعليم في العالم العربي رابطاً إياه بالديموقراطية.
وركّز الباحث في المركز المتخصص في الإصلاح التربوي الدكتور محمد فاعور على أن التعليم الجيد "ضرورة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية"، وأن هذه التنمية المستدامة في القرن الـ21 تتطلب "كفاءات معينة للتعلّم مدى الحياة التي يجب أن تعلمها المدارس".
الأطفال العرب الأكثر عرضة لخطر الحرمان من فرصة التعليم بسبب الفقر ونقص التوعية (أ.ف.ب)
ولفت إلى أهمية مهارات مثل "التفكير النقدي، وحل المشكلات، ومحو الأمية الرقمية، والمسؤولية الاجتماعية والمدنية"، التي تمثّل ضرورة للداخلين الجدد إلى سوق العمل.
وخلص فاعور، إلى أن معظم الأنظمة العربية غير قادرة على تعليم الطلاب بشكل كافٍ في هذه المجالات الحيوية.
حيوية الصغار التي تظهر بشكلٍ واضحٍ ومباشرٍ عند أبواب الخروج من المدارس لا تمت بصلةٍ من قريب أو بعيد عمّا يحدث في داخل المدارس. حيوية الانطلاق والاطلاع على ما جرى في أثناء ساعات الغياب على أثير "إنستغرام" و"فيسبوك"، والانضمام إلى الأقران والأصدقاء في رحلات التوجّه إلى "سنتر" الدروس الخصوصية أو سلك الطريق الأطول إلى البيت إمعاناً في التعرّف إلى العالم الخارجي، والتمتع بشارع لا قيود فيه أو أجراس أو ساعات حضور وانصراف تقف على طرف نقيض من المجالات الحيوية التي يطالب الخبراء بإدراجها في أنظمة التعليم العربية.
درجات التقييم والتقويم
أنظمة التعليم العربية تقف في "اليوم الدولي للتعليم" هذا العام على درجات مختلفة من درج التقييم والتقويم، وذلك بعد عقودٍ اعتادت خلالها أن يضمها تقرير واحد يعترف بفروق ما، ودراسة واحدة تنوّه إلى اختلافات صغرى بين الدول الكبرى بالمنطقة وغيرها من الدول العربية.
حتى التقارير الصادرة والدراسات المعلنة تبدو وكأنها تتحدّث عن عالم عربي آخر، أو على الأقل مبحوثين غير أولئك الذين نتابعهم في المدارس وتشاهدهم على أبواب "السناتر"، وتتحدث مع ذويهم حول التعليم العربي وما له وما عليه.
منظمة "يونيسف" أعلنت في العام 2015 أن دول المنطقة حققت "تقدماً كبيراً على صعيد زيادة نسبة التحاق الأطفال بالمدارس والحضور واستكمال الدراسة".
وبلغة الأرقام، أشارت المنظمة إلى أن عدد الأطفال العرب خارج المدرسة انخفض من 15 مليون طفل في عام 2008 إلى 12.3 مليون طفل في عام 2015، لكنها اعترفت بوجود فروقٍ شاسعة بين نسب الالتحاق الكبيرة نسبياً في بالمرحلة الابتدائية ومثيلتها في المرحلتين الإعدادية والثانوية ما يعني توقّف كثيرين عن التعليم بعد المرحلة الابتدائية.
كما نوّهت "يونيسف" إلى الفروق الشاسعة بين دولٍ عربية تحقق تقدماً ملحوظاً في ملف التعليم، وأخرى تتعثر وتتأخر، بما في ذلك فروق داخلية بين الحضر والريف في أغلب الدول.
ورغم التقدم المُحرز الذي بدأت به "يونيسف" إشارتها إلى التعليم في المنطقة، كانت الإشارة الواضحة إلى وجود نحو 22 مليون طفل وطفلة عرب، إما متسربون من التعليم أو مهددون بالتسرب.
متسربون ونازحون
ملايين الأطفال المتسربين من التعليم تحفل بهم شوارع العالم العربي وورشه ومحلاته التجارية ومخيماته.
نحو 9 آلاف مدرسة لا يمكن استخدامها جراء تعرضها للدمار بالوطن العربي (أ.ف.ب)
التقرير العالمي لرصد التعليم لعام 2019 والصادر عن "يونسكو" وضع العالم العربي على رأس القائمة، لكنها قائمة أكثر مناطق العالم تأثراً بالهجرة والنزوح، فالمنطقة العربية التي تمثل خمسة في المئة من سكان العالم تحظى بـ32 في المئة من اللاجئين و38 في المئة من النازحين داخلياً، وذلك بسبب الصراع.
وبعد ما كانت المنطقة العربية تقطع خطوات بشقّ الأنفس على طريق الارتقاء بالتعليم، ومن ثمّ تحقيق النهوض في المستقبل، أصبحت المنطقة العربية تصارع الزمن وتسارع الخطوات في محاولة للبقاء بعيداً عن الانزلاق نحو القاع.
القاع والقدر
ويخبرنا القاع أنه بعد عقود من المعاناة العربية بسبب مأساة اللاجئين الفلسطينيين وما ترتب عليها من مشكلات متواترة ومعقدة فيما يختص بتعليم الأطفال الفلسطينيين، جاءت الأزمة السورية لتدفع بسوريا إلى الصدارة من حيث أكبر عدد من اللاجئين في المنطقة العربية مسجلة 6.7 مليون سوري هارب من الحرب المحتدمة، كما حجز السودان مكانة لنفسه بين العشرة الكبار المصدرين للاجئين محققاً 0.7 مليون لاجئ سوداني.
وأشار التقرير إلى أنه على الرغم من الاستجابة السريعة إلى مشكلة اللاجئين من الدول المستقبلة لهم، وعلى رأسها لبنان والأردن، فإن 39 في المئة من الأطفال العرب اللاجئين غير ملتحقين بالدراسة، كما أن كثيرين غيرهم ملتحقون بنظم تعليم موازية، لكنها غير مستدامة.
في المدرسة قصفٌ وتفجيرٌ
وحسب "يونيسف"، ففي كلٍّ من سوريا والعراق واليمن وليبيا، نحو تسعة آلاف مدرسة لا يمكن استخدامها جراء تعرضها للضرر أو الدمار أو لأنها أصبحت تستخدم ملجأً للعائلات النازحة أو مقراً لأطراف النزاع.
كما أن آلاف المعلمين يضطرون إلى التخلي عن وظائفھم أو يعزف الأهل عن إرسال أبنائھم إلى المدرسة خوفاً مما قد يحدث في الطريق إلى المدرسة، أو في المدرسة نفسھا من قصفٍ وتفجيرٍ.
سقطوا سهواً
وإذا كان الحديث عن فرص تعليم لملايين الأطفال العرب اللاجئين يخلو من التطرق إلى نوعية التعليم، ومدى مواءمته احتياجات سوق العمل المستقبلية، فإن الأمر لا يختلف كثيراً فيما يتعلق بالأطفال العرب بلا مأوى، أو العاملين في المحلات والورش والمنازل، وبالطبع الطفلة الأنثى التي يجري تزويجها، وهي دون سن الـ18.
هؤلاء قد يسقطون سهواً في احتفالات "اليوم الدولي للتعليم" حيث الاهتمام ينصبّ على النهوض بنوعية التعليم ومحتواه، والنظر بعين الاعتبار إلى المناهج غير المواكبة للحاضر فما بالك بالمستقبل، والمساواة بين الإناث والذكور في فرص الالتحاق بالمدارس ودراسة التخصصات العلمية، والتركيز على تنمية المهارات والتفكير النقدي وليس فقط الحفظ والصم والتلقين.
المعرفة عربياً
تقرير المعرفة العربي الصادر في عام 2019 عن المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة تحت عنوان (استشراف مستقبل المعرفة) أشار إلى التعليم باعتباره البعد المعرفي الأهم والمطلوب من أجل مواكبة العصر وتحقيق التنمية المستدامة.
وشدد التقرير على التعليم قبل الجامعي والتعليم والتدريب الفني، إذ جودة مؤسسات التعليم والتدريب تستهدف تنمية المهارات لسدّ الفجوة الكبيرة بين المطلوب والموجود.
بين المطلوب والموجود
وبين المطلوب والموجود واقعٌ صعبٌ وماضٍ أقل صعوبة، ومستقبل يحمل فرصاً ذهبية، ويلوح بنتائج كارثية على حسب ما يقرر العرب عمله فيما يختص بالتعليم. فبالإضافة إلى نوعية التعليم التي تحوّلت قوة طاردة للصغار بسبب الحفظ والتلقين والجمود والهجرة نحو "السناتر" مع ترك المدارس خاوية على عروشها، وذلك في الدول المستقرة، توجد فئات الأطفال العرب الأكثر عرضة لخطر الحرمان من فرصة التعليم بسبب الفقر ونقص التوعية لدى الأهل وزواج الأطفال وضعف الرقابة الحكومية، ثم أضيف إليهم ملايين الأطفال اللاجئين والنازحين بسبب تمدد الصراعات الداخلية في العديد من الدول العربية.
سقف توقعات ملاصق للأرض
ولعل نتيجة استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة "الباروميتر العربي" في مناسبة "اليوم الدولي للتعليم" والمُعلنة قبل أيام تشير إلى انخفاض سقف التوقعات لدى الكثيرين من المواطنين العرب في ظل الظروف بالغة الصعوبة التي تمرّ بها المنطقة العربية بلا استثناء، وذلك انخفاض يكاد يرتطم بالأرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فقد تراوحت نسبة الراضين للغاية والراضين عن النظام التعليمي في 11 دولة عربية بين 65 في المئة حداً أقصى (فلسطين)، و26 في المئة حداً أدنى (العراق).
الطريف أنه في الدول الـ11، كان الأفراد الأكبر سناً والأقل تعليماً والإناث هم الأكثر رضا عن مستوى التعليم مقارنة بالأصغر سناً والأكثر تعليماً والذكور، وهو ما ينضح بكثيرٍ عن أسباب هذا الرضا الغريب.
الدول الـ11 هي مصر والأردن وفلسطين والعراق والكويت واليمن وتونس والجزائر والمغرب وليبيا ولبنان.
الرشوة والجودة
وتفوّق لبنان على الجميع من حيث تصورات ضرورة دفع رشوة في مقابل الحصول على خدمات تعليمية أفضل، وذلك بنسبة 63 في المئة، وبلغت النسبة أدناها في الكويت.
وهنا تبادل الكبار والصغار المقاعد، إذ ارتفعت نسب الربط بين الحصول على تعليم جيد ودفع رشاوى بين الشباب في الفئة العمرية بين 18 و29 عاماً، في حين بلغت أدنى معدلاتها بين الأكبر سناً، إذ بلغت 36 في المئة بالشريحة العمرية 60 عاماً فأكثر، وتبين عدم وجود فروق تُذكر في اعتبار الرشاوى مدخلاً رئيساً للتعليم الجيد بين الريف والحضر أو بين الرجال والنساء.
وفي "اليوم الدولي للتعليم"، يعاود العرب طرح السؤال الكلاسيكي الذي طرحه عميد الأدب العربي الراحل طه حسين وقت كان وزيراً للتعليم، وذلك في آخر حكومة وفدية قبل قيام ثورة يوليو (تموز) 1952: هل التعليم كالماء والهواء، أم كالبارود والمتفجرات، أم أنه رشاوى ملازمة للجودة ومحتوى لم يجد من يحنو عليه فبات سقف توقعاته مقارباً للأرض؟