الرهان على الوطنية العراقية

آخر تحديث 2020-02-12 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

العراق في محنة عميقة لا أحد يعرف على أي صورة يخرج منها. بعض أسبابها مرتبط بالصراع الأميركي – الإيراني على النظام الإقليمي. وبعضها الآخر جزء من صراعات داخلية وذاكرة تاريخية ممتدة من بدايات التاريخ الإسلامي والخلافة إلى الوضع الحالي، مروراً بشكل العراق الحديث الذي "هندسه" تشرشل بعد الحرب العالمية الأولى على أساس "اتفاق سايكس بيكو"، ثم الجمهورية بعد انقلاب 1958، فدولة البعث وصدام حسين. كان دور العراق المعلن قبل الغزو الأميركي وبعد قيام جمهورية الملالي بقيادة الخميني في إيران أن يكون "حارس البوابة الشرقية" للأمة العربية، وطموحه أن يصبح "بروسيا العرب". بعد الغزو عام 2003 صار "جبهة أمامية" لطهران وساحة للصراع بين أميركا وإيران. والسلطة التي تكونت من معارضين هربوا إلى إيران وسوريا وأوروبا وجاءوا مع الغزو اعتادت، بقليل من النجاح وكثير من الفشل، على حفظ التوازن في التعامل مع ثلاث قوى: أميركا، إيران، والمرجعية الدينية في النجف حيث الكلمة العليا لآية الله علي السيستاني. اليوم تواجه، بالإضافة إلى ذلك، تحدي التعامل مع قوة فاجأتها بالنزول إلى الشارع: جيل جديد ولد بعد الغزو الأميركي أو كان طفلاً وقته يشكل 60 في المئة من السكان لا يعرفون صدام والبعث بل فساد السلطة الحالية وقمعها والتسلط الأميركي والإيراني. و"الفساد هو الاقتصاد السياسي للعنف" كما يقول الرئيس العراقي حالياً برهم صالح. وكل عنف السلطة والميليشيات لم يستطع وقف الحراك الشعبي على الرغم من مئات القتلى والمخطوفين وآلاف الجرحى.

وما أكثر الدلالات في كون الحراك الشعبي يتركز في محافظات الوسط والجنوب، وبشكل خاص في النجف وكربلاء. فعلى صورة السلطة ومثالها يكون الاعتراض. هكذا كان الأمر في الاتحاد السوفياتي بعد تصفية القوى المعارضة: الحكام من الحزب الشيوعي، والمنشقون والمعترضون المسجونون أو المنفيون أو الذين جرى إعدامهم، من كادرات الحزب الشيوعي، لأن السياسة محصورة بالحزب. وهكذا كان الأمر في الصين أيام ماو تسي تونغ والثورة الثقافية. وهكذا الأمر في العراق: السلطة في يد المكوّن الشيعي بعد عقود من حكم المكون السني. رؤساء الحكومات أصحاب القرار السياسي والعسكري كقيادة عليا للقوات المسلحة يتم اختيارهم بالتوافق في "البيت الشيعي". أما دور المكون السني والمكون الكردي، فإنه التسليم بالخيار والتفاوض مع المرشح لرئاسة الحكومة على الحصة فيها. والأكثرية في الحراك الشعبي من الشباب الشيعي. لا تظاهرات في المحافظات السنية، ولا في إقليم كردستان. والسبب، في رأي أحد زعماء السنة أسامة النجيفي الذي كان رئيساً للمجلس النيابي هو "إن اندلاع التظاهرات في المحافظات السنية ستستغله السلطات لتسويق الأمر على أن هناك مؤامرة على الحكم من جانب السنّة".

وليس واضحاً، على رغم من التضحيات الهائلة، ما الذي يتمكن الحراك الشعبي من إنجازه ولو بالحد الأدنى. لا بالنسبة إلى تركيبة السلطة والانتخابات المبكرة ومحاسبة الفاسدين وتقديم الخدمات الغائبة. ولا بالنسبة إلى الاعتراض على الدورين الأميركي والإيراني وسط الرهان على الوطنية العراقية. لكن المؤكد أن المطالبة بحكومة مستقلين عن الأحزاب وخارج المحاصصة ستبقى حلماً وردياً. فلا مهرب من المحاصصة التي هي "آلية العمل" في النظام الطائفي. حتى في الأنظمة العلمانية. فإن المحاصصة تفرض نفسها في تشكيل الحكومات الائتلافية بين الأحزاب عندما يفشل أي حزب في نيل الأكثرية النيابية. لكن المحاصصة هناك تأتي بعد التفاهم بين الأحزاب المؤتلفة على برنامج عمل الحكومة. في حين أنها هنا تعكس أوزان القوى الطائفية وبعض التوازن من دون أي برنامج، بحيث تصبح الحكومات "متاريس" وتفشل.

ذلك أن من الوهم تصور أميركا غزت العراق من أجل "نشر الديمقراطية" كما ادعت. والوهم الأكبر هو تصور النظام الثيوقراطي في إيران يريد ويدير ديمقراطية في العراق. حتى في الأوهام، فإن كوندوليزا رايس في كتاب "قصص من طريق طويل إلى الحرية" تعترف بأن "محاولات نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط فشلت". لماذا؟ بسبب الافتقار إلى "حجر أساس هو مؤسسات سياسية تخلق فرصاً أمام الشعب لكي يجرب السلطة". والواقع أمامنا مكشوف. الطائفية السياسية هي أعلى مراحل الطائفية التي تصبح مذهبية. وما تفعله المذهبية هو تفكيك المجتمع الوطني، و"مذهبة" كل شيء في السلطة، من فوق حيث مؤسسات الدولة إلى تحت حيث الإدارة. فالأحزاب مذهبية وإثنية ولا دور للأحزاب العابرة للطوائف إلا في الهوامش. وهذه كانت ولا تزال حال لبنان قبل العراق. وهي مرشحة لأن تصبح حال بلدان عربية عدة تواجه مزيجاً من حروب أهلية وأدوار خارجية.

عام 2013 قبل الميلاد أصدر سرجون الأكادي مرسوماً ملكياً ألغى بموجبه جميع المحاكم الدينية وأقام محاكم مدنية. ومن المحزن والمخيف أن نسأل: أين العراق ونحن اليوم من أيام سرجون الأكادي؟