البديهيات التي تنقذنا من التلف

آخر تحديث 2020-02-15 00:00:00 - المصدر: الترا عراق

تتذكرون ما كتبه نيتشه في "زرادشت" عن حاجة الإنسان في كلّ يومٍ لعشر حقائق بديهية يكرّرها على مسامعه، بينه وبين ذاته، يعيد تذكير نفسه بعشر بديهيات لا أكثر، بديهيات قد تكون مضحكة إذا سمعها أحد منك، لكن اطمئنّ فلن يسمعها أحد إلاك.

لو تذكّر كلّ منا يوميًا حقيقة أنه إنسان لا إله، لانمحى في طرفة عين ربع شروره، ولو تذكّر  أنه غير معصومٍ  لكفّ عن الناس ربع شرّه الآخر

وهذا صباح جديد، قلْ في هذا الصباح لنفسك: إن الشمس ستشرق من المشرق، وستغرب من المغرب، إن واحدًا زائدًا واحدًا يساوي اثنين، إنك تتنفس، إنّ قلبك يقوم بعمله دون أمر منك، إنّك ميتٌ في يومٍ ما وإنهم ميتون لا محالة، إنّ الأرض تدور سواء رضيتَ أم لم ترضَ، إنّ الإنسان لا يكفّ عن الخطأ والخطيئة، وإنك إنسان.

هذه البديهيات عظيمة. أوتدري لماذا؟

مدربو كرة القدم "رأيت ذلك في حوار مع أرسين فينغر الذي أحبه" حين يرون لاعبًا قد فقد تركيزه، أو فقد رغبته باللعب، أو لم يعد نشاطه الجسماني يتآلف مع نشاطه الذهنيّ، ينصحونه بالتالي: عدْ إلى بديهيات الكرة، لا تفعل شيئًا خارج البديهية، لا تتفننْ لا تراوغْ ولا تحاول الإبداع، فقط وفقط مرر الكرة بشكل سليم إلى زميلك، حينها سيعود لك كلّ شيء وستعود كما كنت. البديهيات تنقذنا من التلف.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا نسخر من مقتدى الصدر؟

لو تذكّر كلّ منا يوميًا حقيقة أنه إنسان لا إله، لانمحى في طرفة عين ربع شروره، ولو تذكّر مرة أخرى أنه غير معصومٍ وأن الآخر مثله يناظره في عدم المعصومية لكفّ عن الناس ربع شرّه الآخر، ولو رسّخ في ذهنه بديهية أخرى عن استحالة أن يفرض تفكيره ويحشره في رؤوس الآخرين حشراً أو استحالة أن يعمم طريقة حياته على الآخرين بالقوة والإكراه لانقلع الشرّ كلّه من هذا العالم.

أعطني لحظة من وقتك رجاء، هل أنت سعيدٌ بحياتك بما فيه الكفاية، سعيد ومبتهج ومرتاح ومسترخٍ إلى الحدّ الذي تريد من حيوات الآخرين أن تكون نسخًا مكررة من حياتك أنت، لكي تعمّ السعادة والحبور كلّ أرجاء المعمورة؟ إذا كنت كذلك فأنت تعيس ولا تدري. لأنك نسيت البديهية الأولى التي تقضي بأنّ نسختك من السعادة قد تكون نسخة آخرين من التعاسة.

هل أنت على يقينٍ من روايتك عن الحقيقة، واثق من فكرتك عن الله والدين والقداسة وثوقًا لا سبيل إلى دحضه، وتريد لهذا الوثوق أن يملأ كل هذه الأجساد التي تدبّ على الأرض بقدمين؟ أنت ضائع أذن، تائه وضلّيل، لأنك خنتَ البداهة التي رددتها على نفسك في الصباح: أن روايتك عن الحق والحقيقة والقداسة قد تكون قصة كوميدية عند آخرين.

في الصراعات الكبرى كالحروب الأهلية مثلاً، تريد طائفة من الناس أن تملي على طائفة أخرى طريقة حياتها، تفكيرها، قداستها للأشخاص والمُثل العليا، تريد فرض حقائقها، لكنها تسحق حقيقة الحقائق، تسحق البديهية التي تهزأ بالتماثل: أنّ ملاكك قد يكون شيطان قوم آخرين، ومهديَّك سفيانيّهم، ومسيحك أعورهم الدجال، ويقينك الذي تتعبد به حدّ الفناء قصتهم المضحكة في شتائهم الطويل. كل هذه الحروب سببها نسيان البديهيات.

في الصراعات الكبرى تريد طائفة من الناس أن تملي على طائفة أخرى طريقة حياتها، تفكيرها، قداستها للأشخاص والمُثل العليا، تريد فرض حقائقها، لكنها تسحق حقيقة الحقائق

وهذا صباح جديد، قل فيه حقائقك، بديهياتك العشر، قل: إن الشمس تشرق من الشرق، إنك لست ربًا، لست معصومًا، إن نسختك من الحقيقة قد تكون بهتانًا، إن دليلك على الحقّ ضرب من التيه، إنّ العالم لن يتغيّر لمجرد أني أريد ذلك، إني خطاء ابن خطاء ابن خطاء إلى أوّل الخطائين، وإن الحياة ستظلّ إلى الأبد يتناوب عليها خطأ وصواب، إنك لن تستطيع أن تسعد الناس بسعادتك "احتفظ بها لنفسك"، ولن تهدي الناس بهداك، وإنك ميّت وإنهم ميتون. قلْها، سترى العالم وقد تغيّر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فصل جديد من كتاب المحنة.. خطاب إلى الأمة الصدرية

العصي والهروات في مواجهة وعي الحقوق