ظلّت الأنبار محافظة عصيّة على السلطة التي يقودها الشيعة في بغداد بعد العام 2003، على الرغم من انخراط عدد من أبناء الأنبار في ما يسمى بـ"العملية السياسية"، ومنهم من تقلّد مناصب مهمة على غرار رئاسة مجلس النواب، وفق نظام المحاصصة الذي شكّلته السلطة المدنية الأميركية بزعامة بول بريمر.
تغيب السنة العرب بفعل المحاصصة
المحاصصة التي قادت البلاد على مدى سنوات عجاف، فرضت خلالها نمطاً من الحكم الذي تريد، ومدّت سكك العملية السياسية بدستور وصف بالمغالبة وفرضْ المنتصر على فريق النظام السابق، الذي جل قياداته من المكون السني في القرار، وفي طبيعة الحكم!
نوري المالكي رئيس الحكومة الأسبق في زيارة الى البيت الأبيض العام 2013 (غيتي)
وزعت المحاصصة بين المكونات الثلاثة الرئيسة: شيعة وسنة عرب وأكراد، إضافة إلى أقليات أخرى مثل الصابئة والإيزيدية والشبك، وسط تأرجح موقف أبناء الأنبار على الرغم من كونهم المكون الأساس والثقل الثاني الأكبر بين المحافظات العربية السنية الأربع، بعد الموصل وتليها صلاح الدين وديالي وأجزاء من كركوك وبغداد، وبين الحاجة إلى حسم مواقفهم في الاشتراك أو عدم المشاركة في النظام السياسي الجديد الذي قام بعد الاحتلال، على قاعدة المغالبة وفرض ديكتاتورية الأغلبية المنتصرة، والنتيجة نظام برلماني بأغلبية نسبية على المكونين الآخرين لحساب المصلحة والقرار الشيعي.
انقسام المكون السني
انقسم مجتمع الأنبار السياسي وقتها بين توجهات هيئة علماء المسلمين، الرافضة المشاركة في سلطة قامت على دستور الاحتلال المنحاز إلى الشيعة والكرد (من وجهة نظرهم المعلنة)، حين دعا حينها رئيسها الشيخ حارث الضاري العرب السنة لتغيير هذه المعادلة الظالمة، إلى حد المطالبة بحمل السلاح وتغييرها بالقوة، بعد فشل مؤتمر المصالحة الذي عقد في القاهرة العام 2005، الذي حضرته الأطراف العراقية كافة بمن فيهم أعضاء النظام السابق وبمسميات مختلفة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى جناح الإخوان المسلمين المتمثل بالحزب الإسلامي، الذي قبل المشاركة الخجولة في العملية السياسية ليعطي في محصلات مشاركته تلك شرعية دولية لترسيخها، رغم اعتراضه على بعض فقرات الدستور والدعوة لمراجعته خلال ستة أشهر، في مسعى فُسّر على أنه لكسب جمهور السنة ومخرج لمشاركته المحسوبة سلفاً لمآرب معروفة.
لعبة كتابة الدستور
وكانت محاولة تكتيكية أثبت في ما بعد بأنها صفقة سياسية ليس إلا، فالدستور لم يتغير، ولم يجرؤ أحد على ذلك بوجود "الثلث المعطل" فيه الذي يحول من دون أي إجراءات إلا بموافقة أغلبية الثلثين، وهذا لن يحدث نتيجة التوافق الاستراتيجي الشيعي – الكردي.
وقد أقرّ الدستور بعلله القانونية والسياسية والألغام التي فيه كما أورد الكثير من المشرعين العراقيين والعرب والدوليين، الذين عدوه (دستور الألغام) على حد وصف أحد المشرعين الدستوريين.
هذه الأجواء وحصيلتها مزّقت بنية المكون السني طيلة عشر سنوات مريرة، رافقها إجراءات متكررة قامت بها السلطة في الإقصاء والعزل السياسي من خلال قانون "اجتثاث البعث"، الذي أقصى غالبية الكفاءات السنية والشيعية معاً التي عملت في وظائف الدولة في النظام السابق.
دخان بعد غارات من طيران التحالف على غرب الموصل (غيتي)
وقانون (أربعة إرهاب) الذي تلاه، و"المساءلة والعدالة" الذي فُسّر بأنه سيف مصلت على المعارضين والخصوم السياسيين، وأغلبهم ينتمون إلى المكون السني، ولموظفي النظام السابق الذي تدرج أعضاؤه من خلال عملهم كمنتسبي الدولة في الوظائف العامة من دون استثناء، وتدرجوا أيضاً في سلم الحزب الذي حكم البلاد خمسة وثلاثين عاماً، أضحت تهمة يوجهها النظام الجديد الذي يوصف بالطائفية، ويشهرها بوجه الآخرين خارج سرب الانحياز الطائفي.
انفجار حاضنة الأنبار المهمشة
هذا الاحتقان تسبب في انفجار الأوضاع في الأنبار وسواها من مدن المكون السني بعد عشر سنوات من مقارعة النظام الجديد، وذلك في العام 2013، بعد أن دفعت قسراً، وتحوّلت إلى حاضنة عشائرية للحركات المتطرفة بحكم مناوئتها وسخطها على السلطة، وكرد فعل على القسوة والعنف والإقصاء من جهة، ومقاومتها الاحتلال وأساليبه من جهة ثانية.
الاحتلال كرّس من جانبه سياسة الإبعاد والشراكة الناقصة، لا سيما بعيد معركتي الفلوجة الأولى والثانية، مطلع أبريل (نيسان) العام 2004 عند محاولة الجيش الأميركي اقتحامها وممانعة أهلها ورفضهم ذلك، ما تسبب في حرب ضروس، تكبد الطرفان فيها خسائر فادحة جراء استخدام الأسلحة الثقيلة والطيران الحربي بقسوة، وذلك بمشاركة القوات الحكومية العراقية المكلفة بمسك الأرض، وتطويق قضاء الفلوجة الذي يُعد أكبر أقضية العراق نفوساً ومساحة ورمزية.
القوات العراقية تعتقل أحد عناصر داعش في الموصل (غيتي)
نتائج معركتي الفلوجة
هاتان المعركتان أحدثتا شرخاً كبيراً لم يندمل حتى اليوم، بعد مقتل المئات من سكان الأنبار والتهجير اللاحق الذي حدث بعد سيطرة القاعدة على أجزاء مهمة من الأنبار حتى تطهيرها من القاعدة ومقتل الزرقاوي.
ظلت الأنبار وسكّانها الذين يشغلون ثلث العراق مساحة والأقل نفوساً الذين يبلغون ما يربو على مليون ونصف المليون تقريباً، ظلوا في حالة صراع مع سلطة بغداد، على الرغم من تمثيلهم من بعض السياسيين من عشائرهم، حتى قيام تظاهرات عارمة تطالب برفع المظلومية والتهميش السياسي عنها، والإفراج عن آلاف المعتقلين والمغيّبين من أبنائها، واستعادة حقوقهم في تظاهرات غير مسبوقة شهدها العام 2013، التي قُمعت بشدة من قبل جهاز مكافحة الإرهاب الذي قاده آنذاك رئيس الوزراء نوري المالكي.
تنظيم داعش واجتياح الأنبار
وزاد أزمة الأنبار تعقيداً قيام تنظيم داعش باحتلال أجزاء واسعة من الأراضي العراقية، خصوصاً الموصل والمناطق السنية التي حولها، وذلك في صيف العام 2014 متخطياً الموصل إلى الأنبار وصلاح الدين وأجزاء من ديالي، ما زاد الطين بلة ومأزقاً للسنة العرب عموماً، وأفشل مشروع المصالحة السياسية عموماً، وأرجأ الحديث عن الحقوق المهدورة للسنة العرب بسبب وحشية ذلك التنظيم واستهدافه السنة العرب قبل غيرهم، وقتلهم وهدم مدنهم، وتهجير ما يزيد على خمسة ملايين عراقي عن مناطقهم، في أكبر نكسة تمر بها الأوضاع الأمنية والاجتماعية في التاريخ العراقي المعاصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف احتلال داعش المناطق ذات الأغلبية السنية معضلات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة، نتيجة تعامل أبناء الأنبار مع هذا التحدي الخطير، الذي هجّر مئات الآلاف منهم، ودمّر بنية محافظتهم الاجتماعية والعمرانية والخدمية، وشل قطاعات واسعة من حياة السكان، وخلّف جيوباً من عناصر التنظيم التي أعطت مسوّغاً لعسكرة المجتمع عموماً، وبقاء ديمومة الميليشيات واستفحال دورها، ناهيك بالحاجة المتواصلة لإعادة الحياة وتوطين اللاجئين والمهجرّين التي تستنزف المناطق ذات الأغلبية السنية.
لقد فرضت السنوات الثلاث (2014 - 2017) التي شهدت عمليات تحرير المدن السنية من سطوة الدواعش تحديات جوهرية، خصوصاً أنها جرت بدعم ومشاركة التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة.
فالتبعات كانت عديدة ومكلفة استنزفت بنية مجتمع العرب السنة وقوّت خصومهم، وأنهكت قدراتهم لعدم وجود خطة رصينة واقعية لدى الحكومة لإرساء التعايش السلمي في البلاد، والتلويح المستمر باحتمالية عودة داعش، وولادة أجيال جديدة منهم تهدد باجتياح جديد، إضافة إلى استخدام داعش كورقة لعب، تشهرها الأطراف المتصارعة بوجه خصومها، وكما يقول محافظ الأنبار السابق صهيب الراوي: "بقاء تلك المناطق من دون معالجة أوضاعها يعني بقاء العوامل والمحفزات والمنشطات التي يمكن لها أن تساعد على نمو وظهور تنظيمات مشابهة لداعش".
أين الأنبار من الاحتجاجات؟
الأنبار لم تستقر كلياً حتى الآن، وفيها ملفات عديدة من دون معالجة، يشعر أبناؤها بانعدام الثقة والتوجس من نيات وأساليب أحزاب السلطة وميليشياتها، لذا تغيبوا عن مشهد الاحتجاج الذي يعلنه العراقيون حالياً في العاصمة وباقي المدن، بعد أن أدركوا ذلك! ولا ننس كيف لبّى طلبة جامعة الأنبار نداء بغداد ومدن الجنوب والوسط الشيعية منذ أكثر من أربعة أشهر، وجرى منعهم بقوة وتحذيرهم من القيام بأي نشاطات احتجاجية، وإن كانت سلمية لمحاكاة ما يجري في العاصمة ومدن الجنوب.
احتماليات قيام الإقليم السني
هل يمكن أن يكون مخرج أزمة الأنبار في إعلان تشكيل "الإقليم السني" الذي يروج له بين الحين والآخر؟ قد يكون ذلك أحد خيارات أهل الأنبار التي يكفلها الدستور العراقي الحالي، الذي يتيح لثلاث محافظات إمكانية إعلان إقليم، على غرار إقليم كردستان الخاص بالأكراد يؤطره النظام الفيدرالي الذي يسيّر البلاد، وما يجعل الدعوات لهذا السبيل قائمة، هو استمرار سياسة التهميش والعزل السياسي، والقوانين التي فرضها الطرف المنتصر الشيعي - الكردي، على العرب السنة في أعقاب سقوط النظام السابق، واتهامهم بموالاته ذريعة، التي أضحت تميمة النظام القائم يشهرها بوجه معارضيه وبكونهم مادة السلطة وأداتها، يذكي هذا الخيار مخاوف العرب السنة بشأن نجاح قيام شراكة حقيقية في المقبل من الأيام، تمكّنهم من إدارة مناطقهم بكفاءة وحرية بما يكفله الدستور، بعيداً عن سطوة الميليشيات وزعماء الحرب، كما يظن البعض.
فعلى الرغم من تأليف السنة كتلة مكونة من 53 نائباً تمثل أكبر كتلة نيابية، من أصل (328) مقعداً برلمانياً، لكنها غير قادرة على أن تكون فاعلة جدياً، أمام امتلاك القرار للشيعة السياسية، نتيجة دعم المرجعية الدينية لهم ومركزيتها في اتخاذ القرار، إذا ما جرى التصويت على أي قرار استراتيجي يخص السلطة والملك وليس الحكم.
انقسام أهل السنة وفرقتهم وراء ضعف مكونهم
يضاف إلى كل العوامل السابقة، يوجد انقسام وتبعثر آراء وتناحر عشائري ومناطقي تشتت أصوات أهل السنة، وقد اتضح ذلك جلياً في انقسام المكون السني إزاء التظاهرات التي تشهدها العاصمة بغداد وتسع محافظات أخرى الجنوبية الوسطى، فقد التزم سنة الأنبار الصمت من المشاركة في التظاهرات على الرغم من كون مدنهم الأقرب إلى بغداد منها للمحافظات الأخرى، فلا تبعد سوى مئة كيلومتر عن مركز التظاهر، خشية أن تتهم بأنها مخلب النظام السابق في تلك التظاهرات أو احتمالية اتهامهم بـ"الدعشنة"، التي قد تكون ذريعة السلطة لإنهاء التظاهرات في بغداد، وبالتالي إنهاء سلطتهم على مدنهم، حتى إن جانب الكرخ في العاصمة ذات الأغلبية السنية يشهد صمتاً لافتاً إلى وجود أحياء سنية كثيرة فيه، يقطنها أهالي من الأنبار، وتقتصر التظاهرات على جانب الرصافة ذات الأغلبية الشيعية المطلقة، وهذا يكشف حجم الخلل البنيوي في المجتمع، الذي يجعل جزءاً حيوياً من المجتمع مشاركاً بالفرجة فقط لا بالفعل!
لقد بات واضحاً أن ضمير المجتمع العراقي لم يعد موحداً إزاء الأحداث الكبرى التي تشهدها البلاد، فمحافظة كبرى مثل الأنبار تشكّل ثلث مساحة البلاد غير قادرة على إظهار تعاطفها علناً مع ما يحدث في العاصمة، كما تفعل شقيقاتها المجاورات كالنجف وكربلاء وبابل، وتقلصت مطالب مواطنيها بإطلاق سراح المعتقلين وعودة المهجرين إلى بيوتهم.
ويرجع ذلك إلى سياسة العقاب الجماعي الذي يستشعره أهل الأنبار بشكل أو بآخر، ما يجبرهم على اللجوء إلى الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي كمتنفس للتعبير عن آرائهم ونقل تعاطفهم مع المحتجين من أبناء وطنهم.