تركيا في ورطة من صنع الرئيس رجب طيب أردوغان. هي أعطته سلطة بلا حدود بقوة الصوت الريفي المحافظ في عمق الأناضول قبل أن يخسر إسطنبول وأنقرة ومعظم المدن بقوة الصوت العلماني. وهو اندفع عسكرياً إلى خارج حدود الجمهورية في سوريا والعراق وليبيا. في سوريا راهن منذ بدء "الربيع العربي" على إسقاط النظام وسيطرة "الإخوان المسلمين" على السلطة إلى جانب الإخوان في تونس ومصر تحت مظلة التنظيم الدولي للإخوان الذي بدت إسطنبول عاصمته بقيادة أردوغان. وهو دعم الأخوان وبقية تنظيمات الإسلام السياسي في سوريا بالمال والسلاح، وفتح حدود تركيا لمرور التنظيمات الأصولية المتطرفة إليها. وحين فشلت الخطة بالدخول العسكري الروسي الحاسم بعد المشاركة الإيرانية في الحرب إلى جانب النظام، اختار أردوغان التدخل المباشر بالجيش التركي ومنظمات المعارضة الموالية له. كانت حجته حماية "الأمن القومي" من "خطر" إقامة كيان كردي غرب الفرات وشرقه على علاقة مع حزب "العمال الكردستاني" بقيادة عبدالله أوجلان. وهي حجة قديمة استخدمها الرئيس سليمان ديميريل عام 1989 عندما حشد الجيش على الحدود وهدد بغزو سوريا إن لم تطرد أوجلان وتغلق معسكراته في سهل البقاع. كان خيار الرئيس حافظ الأسد التفاهم. وهكذا جرى التفاوض على "اتفاق أضنة" الذي حصلت فيه تركيا على حق "المطاردة الساخنة" لمن تسميهم إرهابيين بعمق 15 كيلومتراً داخل سوريا.
لكن طموح أردوغان "السلطاني" كان توظيف الفرصة التي رآها مفتوحة أمامه لتحقيق شيء من "الميثاق الملي": الميثاق الذي وضع "شمال سوريا والعراق وبعض جزر إيجه والبحر المتوسط" ضمن حدود تركيا، لكن "معاهدة سيڤر" نسفته. وهكذا أصر على البقاء العسكري في "بعشيقة" في العراق. ولم يكتم القول إن الاتفاق مع "حكومة الوفاق" في ليبيا "صحّح شيئاً من معاهدة سيڤر التي جرى خلالها "سلخ أراضٍ عن السلطنة". والأغرب هو الاتفاق على "ترسيم حدود بحرية بين تركيا وليبيا" لا شواطئ متقابلة بينهما، حيث الفاصل جزيرة كريت اليونانية. لا بل إن أردوغان ادعى أن سكان ليبيا، وخصوصاً أهل مصراتة، من أصول تركية، وأطلق مع حليفه حزب "الحركة القومية" على البحر المتوسط اسم "الوطن الأزرق".
وليس هناك بالطبع سبب واحد وراء مغامرة أردوغان. فهناك أولاً اللعبة التقليدية: البحث عن مكاسب خارجية لتغطية خسائر داخلية. وثانياً الحصول على حصة من الكعكة في لعبة الأمم في سوريا والعراق وليبيا. وثالثاً دعم تنظيمات الإسلام السياسي التي هي السلطة الفعلية في طرابلس لأنها تحمي حكومة السراج. ورابعاً الركض خلف رائحة النفط والغاز حيث اللعبة الكبيرة شرق المتوسط والبحث عن مقعد لتركيا في "نادي الشرق المتوسط".
ولا شيء من دون ثمن في لعبة الأمم. حركة أردوغان الأولى كانت أخذ مسافة من الحليف الأميركي وحلف "الناتو" والاقتراب من روسيا الخصم التقليدي لتركيا عبر ما هو أكثر من شراء صواريخ "أس 400". الحركة الثانية كانت صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: التخلي عن المسلحين المعارضين المحسوبين عليه في شرق حلب لدخول الجيش السوري، مقابل السماح له بعملية "غصن الزيتون" وعملية "درع الفرات" للسيطرة على جرابلس وعفرين والباب وأماكن أخرى غرب الفرات. الحركة الثالثة كانت صفقة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب ثم مع بوتين، بحيث تخلى ترمب عن حماية القوات الكردية على عمق 30 كيلومتراً شرق الفرات ليقوم أردوغان بعملية "نبع السلام" هناك. أما في ليبيا، فإن روسيا في الجبهة المقابلة لجبهة أردوغان.
ومع هذه الحركات وبينها كانت اللعبة التي أدارها بوتين تحت عنوان "مناطق خفض التصعيد"، وأعطى فيها أدواراً لكل من إيران وتركيا في "مراقبة" التطبيق في إطار "مسار أستانا" و"مسار سوتشي" على حساب "مسار جنيف" بإدارة أميركا وروسيا وإشراف الأمم المتحدة. وأبسط ما فعلته موسكو في تطبيق مناطق خفض التصعيد في الغوطة ودرعا وريف حمص وحماه هو مرافقة "الإرهابيين" المتشددين وأسرهم إلى محافظة أدلب. أما أردوغان، فإنه أعطي مهمة لا يستطيع، وحتى لا يريد، تطبيقها. وهي الفصل بين المسلحين المتشددين في جبهة "النصرة" وسواها وبين المسلحين المعارضين "المعتدلين".
كان الفشل المحسوب ضمن تكتيك بوتين الذي أدار معركة إدلب على مراحل: مرحلة "قضم" يتقدم فيها الجيش السوري تحت غطاء جوي روسي وبمشاركة إيرانية. ومرحلة تهدئة يتم فيها "هضم" الأرض المستعادة تحت سلطة دمشق. وهكذا دواليك. والآن دقت ساعة الامتحان الصعب في إدلب. امتحان لقدرة بوتين على تنفيذ الاستراتيجية الروسية مع إرضاء النظام وتركيا وإيران وإسرائيل وأميركا وأوروبا في وقت واحد. وامتحان قدرة أردوغان على الخروج من الفخ الذي وقع فيه، من حيث تصور الربح، وعلى الاكتفاء مؤقتاً بحصة صغيرة من الكعكة بلا مجال لأكلها. ولا أحد يعرف متى يجد بوتين الوقت ناضجاً لمساعدة دمشق على استعادة القسم الأخير من إدلب. لكن الكل يتوقع أن تكون القمة الرباعية في تركيا بين بوتين وأردوغان وإيمانويل ماكرون وأنغيلا ميركل مجرد محطة على الطريق.