لقت الضربات الأميركية على مواقع تابعة للحشد الشعبي والقوات الأمنية العراقية بظلالها على المشهد السياسي في البلاد، الذي لم يخرج من دائرة التوتر والاستعصاء منذ حوالى خمسة أشهر بسبب الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. ويبدو أن تلك الضربات عقّدت مشهد الحوارات المتعلقة باختيار رئيس الحكومة المقبل، إلاّ أنّها قد تكون حافزاً للقوى الشيعية، لتعزيز تماسكها والإسراع في حسم ملف الحكومة.
ملفات معقّدة
ولعلّ أبرز ما يعقّد التوافق على الحكومة المقبلة، هي ملفات إخراج القوات الأميركية من البلاد وحسم مسألة الصراع الأميركي- الإيراني على الأراضي العراقية، فضلاً عن تحقيق مطالب المحتجين، ويبدو أن تلك الملفات اشتبكت وتسبّبت بانشقاقات واسعة على الصعيد السياسي.
أما في ما يتعلق بملف إخراج القوات الأميركية، فيتسيّد تحالف "الفتح" المقرّب من إيران والذي يمتلك أذرعاً مسلحة تنضوي ضمن إطار ما يُسمى بـ"محور المقاومة" مشهد القوى الداعية إلى إخراج القوات الأميركية، فيما يدعم تحالف "سائرون" المدعوم من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر هذا الخيار. لكن الأخير دعا في أكثر من مناسبة إلى الالتزام بالطرق القانونية لحسم هذا الملف.
وفي أكثر من مناسبة أيضاً، عبّرت القوى السياسية السنية عن رفضها هذا المشروع، متخوّفةً من تصاعد نفوذ الأذرع المسلحة في المحافظات ذات الغالبية السنية، فيما لوّحت بعض الجبهات السنية بأنها ستتجه إلى خيار تكوين إقليم في حال خرجت قوات التحالف الدولي، في وقت يرفض إقليم كردستان الالتزام بإخراجها، ما يعقّد المشهد بالنسبة إلى القوى الداعية إلى تفعيل قرار البرلمان القاضي بذلك.
سيناريوهات عدة ولا اتفاقات
في إطار الحوارات حول تشكيل الحكومة المقبلة، أفادت تسريبات بأنّ اجتماعاً كان مقرراً للجنة السباعية الخاصة بحسم ملف رئاسة الوزراء قد أُجّل بسبب الضربات الأميركية.
تسريبات أخرى أشارت إلى أن بعض القوى في تحالف "الفتح" أعادت طرح سيناريو الإبقاء على رئيس حكومة تصريف الأعمال عادل عبد المهدي كونه يدعم خيار إخراج القوات الأميركية من البلاد، مع تقديم ضمانات بتنظيم انتخابات مبكرة قبل نهاية العام الحالي، إلاّ أنّ هذا الرأي لم يحصل على إجماع بين القوى الشيعية.
وفي إطار قائمة المرشحين، كشفت تسريبات عن ترشيح ثلاث شخصيات من قبل اللجنة السباعية، هم "عبد السلام المالكي، وعبد الحسين عبطان ولقمان الفيلي"، فيما قال النائب عن تحالف "الفتح" قصي عباس إنّ "هذه المعلومات لم تصلنا حتى الآن".
وأفادت معلومات أخرى بأنّ رئيس جهاز الاستخبارات مصطفى الكاظمي قد يحظى بتوافق القوى السياسية، لأنها تعتقد أنه سيكون عامل توافق بين واشنطن وطهران وأحد عناصر التهدئة، لكنّ بعض القوى السياسية القريبة من إيران لا تزال ترفض هذا الخيار.
وقال عضو تحالف "الفتح" نسيم عبد الله، إن "اليومين المقبلين قد يشهدان حسم قضية رئيس الوزراء الجديد"، موضحاً في تصريحات صحافية أنّه "لم يتم الاتفاق بشكل نهائي على طرح القوى السياسية الشيعية منح الثقة لعبد المهدي من جديد أو رفضه".
"الفوضى وحالة غياب الدولة"
وفي سياق ردود الفعل على الضربات الأميركية، توالت بيانات الاستنكار من جميع القيادات السياسية العراقية، إذ دان رئيس الجمهورية برهم صالح الضربات، معتبراً أنها "انتهاك للسيادة الوطنية"، فيما حذّر من "انزلاق البلاد إلى الفوضى وحالة اللادولة".
وقال في بيان إن "الانتهاكات المستمرة التي تتعرض لها الدولة هي إضعاف ممنهج وخطير لقدراتها وهيبتها، بالتزامن مع مرحلة يواجه فيها العراق تحديات جسيمة وغير مسبوقة سياسياً واقتصادياً ومالياً وأمنياً وصحياً".
في المقابل، اعتبر النائب عن كتلة "صادقون" التابعة لـ"عصائب أهل الحق" حسن سالم في بيان أنّ "بيانات الاستنكار سلاح ضعيف وأنّ أمام الحكومة خيارين لا ثالث لهما، إما إخراج القوات الأميركية أو إعلان الحرب على هذه القوات المحتلة".
وطالب "وزارة الخارجية العراقية بالتقدم بشكوى لدى مجلس الأمن الدولي وعقد جلسة طارئة في الأمم المتحدة لإدانة العدوان الأميركي البريطاني الذي استهدف قواتنا الأمنية والحشد الشعبي ومطار كربلاء المدني".
كما شدّد على ضرورة "استدعاء السفير الأميركي والبريطاني وتسليمهما مذكرة شديدة اللهجة، تحمّلهما كل تبعات هذه الجريمة التي أدت إلى خسائر بالأرواح من أبناء شعبنا العراقي وتسببت بأضرار مادية".
وتابع أن "السكوت على هذه الجريمة سيؤدي إلى تمادي الولايات المتحدة وارتكاب جرائم أخرى بحق أبنائنا".
اتفاق مستحيل
في السياق ذاته، رأى الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي في حديث مع "اندبندنت عربية" أنّ "الأوضاع ذاهبة باتجاه مزيد من التصعيد"، مرجحاً أن "تكون الحرب مفتوحة وتشمل الأراضي الإيرانية في ما لو استمر التوتّر لأنّ واشنطن تعتبر طهران المحرّك الرئيس لتلك الفصائل".
وعن احتمالية تمسك القوى القريبة من إيران بملف إخراج القوات الأميركية، أوضح أنّ "هذا القرار غير قابل للتطبيق، والقوى القريبة من إيران تنازلت عنه سابقاً بعد فشل إمرار حكومة محمد توفيق علاوي مقابل الإبقاء على عبد المهدي، لكن هذا الخيار لم يمرّ أيضاً".
وأشار إلى أنّ "التوافق على حكومة مقبلة صار ضرباً من الخيال، نظراً إلى التعقيد في المشهد العراقي"، مردفاً "حتى لو توافقت القوى السياسية على مرشح، فإنّ خياراتها ستُرفض من الشارع ولا حلّ سوى بحكومة طوارئ".
خيط رفيع لتوافقات واشنطن- طهران
وقال رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية واثق الهاشمي لـ "اندبندنت عربية" إن "الضربات الأميركية زادت المشهد السياسي في العراق تعقيداً وتسببت بإحراج كبير للحكومة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف أن "شرط إخراج القوات الأميركية لا يزال مطروحاً من قبل القوى القريبة من إيران، لكن هذا القرار كان بغالبية شيعية وطغت عليه صفة العاطفة"، مبيّناً أنّ "ما يعرقل هذا الخيار هو عدم وجود توافق وطني حوله، إذ ترفضه القوى السياسية السنية والكردية وبعض القوى الشيعية".
وأشار إلى أن "القوى الكردية والسنية وبعض القوى الشيعية تعتقد أن بقاء القوات الأميركية يحميها من التوغل الإيراني".
وعن التوافق الأميركي-الإيراني في ما يتعلق بمنصب رئيس الوزراء العراقي، لفت الهاشمي إلى أنه "مهما بلغت حدة التصعيد الأميركي الإيراني، يبقى منصب رئيس الوزراء هو الخيط الرفيع الذي يجمع مصالح الطرفين، ودائماً ما يتوافقان عليه".
قرار بإرادة إيرانية
في المقابل، أوضح الكاتب والصحافي مصطفى ناصر لـ"اندبندنت عربية" أنّ "القوى الشيعية حسمت أمرها بتصويتها الفردي على إخراج القوات الأجنبية، لكنّ هذا الأمر غير كافٍ ويتطلّب جملة إجراءات فضلاً عن وجوب أن يكون قراراً وطنياً"، مضيفاً أن "القوى الشيعية تشترط على رئيس الوزراء المقبل إخراج هذه القوات من البلاد".
وأشار إلى أنّه "بحسب السياقات القانونية، فإنّ الحكومة ملزمة بتنفيذ قرار البرلمان بإخراج القوات الأجنبية، لكن الإشكالية في أنّ المجتمع الدولي ينظر إلى هذا القرار على أنه صدر بإرادة إيرانية".
وعن ملف الحكومة المقبلة، اعتبر ناصر أن "الضربات عقّدت احتمال التوافق الأميركي الإيراني، لكن إمكانية التوافق بين القوى الشيعية حول مرشح لا تزال ممكنة"، لافتاً إلى أن "حصول توافق سياسي حول مرشح يرضي القوى الكردية والسنية سيلقى ترحيباً دولياً، بدلاً من هذه الفوضى القائمة".
محفز لتشكيل الحكومة
أما رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري، فأعرب في حديثه مع "اندبندنت عربية" عن اعتقاده بأنّ "الضربات الأميركية ستؤدي إلى الضغط باتجاه اختيار رئيس وزراء جديد، خصوصاً في ظل شلل المؤسسة الأمنية نتيجة الارتباك في المشهد السياسي".
وأوضح أنّ "هذه الضربات ستكون محفزاً لتشكيل الحكومة المقبلة، بخاصة أنّ غياب حكومة قوية كاملة الصلاحيات تحظى بدعم سياسي وشعبي، أسهم بتحويل العراق إلى ساحة تصفية حسابات"، معتبراً أنّ "هذه الأحداث جاءت نتيجة سياسات خاطئة انتهجتها حكومة عبد المهدي".
ولفت إلى أن "عودة الضربات المتبادلة قد تحفز حلفاء ايران باتجاه إعادة طرح ملف إخراج القوات الأجنبية كأولوية للحكومة المقبلة وكشرط لدعم رئيس الوزراء الذي سيُكلف"، مؤكداً أنّ "هذا الملف بحاجة إلى توافق مع القوى السنية والكردية الرافضة".