بعد نصف السنة من حراك سلمي متواصل أثبتت "ثورة تشرين" أن تراجعها غير وارد في سياق التطور الطبيعي والضروري للحراك الشعبي الذي يقوده الشباب المنتفض في العراق منذ أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، جاء انبثاق "اتحاد تنسيقيات الثورة العراقية" تتويجاً لمرحلة الثبات والإصرار بالاستمرار اليومي، وتقديم التضحيات تلو التضحيات من عوائل الشهداء وأرتال الجرحى. إذ أبتدأ الحراك بمطالب أولية مشروعة في محاربة الفساد المالي والإداري وإيجاد فرص عمل وغيرها، ثم تطور من المطالب إلى الأهداف بإسقاط النظام السياسي الفاشل، وأحزاب الفساد وسطوة الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وذلك جراء استخدام العنف الدموي ضد المتظاهرين السلميين، والتي أوجبت مواجهاتها المتواصلة تحدي وجودي وطني أكثر متانةً وتراصاً، فجاء الإعلان عن الاتحاد الذي يضم 16 لجنة تنسيقية في 9 محافظات، في الثامن من الشهر الحالي.
ويمكننا سرد مكونات الاتحاد في المحافظات وفق البيان الصادر من المكتب التنفيذي:
في بغداد أربع لجان تنسيقية هي "ثورة شعب العراق"، و"تجمع شباب التحرير"، و"حرائر العراق"، و"وطني حقي". في بابل ثلاث لجان، "أحفاد حمورابي"، و"أحفاد الحسين"، و"أحفاد نبوخذ نُصّر". في النجف تنسيقية "ذو الفقار". في كربلاء تنسيقية "الأحرار". في واسط تنسيقية "ثوار التحرير". في المثنى تنسيقية "حقي وطني". في القادسية تنسيقية "ثورة الشعب". في ميسان تنسيقية "ميسان العزّ". في ذي قار لجنتيْ، "هنا الناصرية" و"الوطنية العراقية" عن عشائر الفرات الأوسط والجنوب. في البصرة تنسيقية "عشائر البصرة".
أمَّا بيان إعلان الاتحاد، فيمكن تقسيم نصوصه وفق الفقرات التالية:
أولاً، في مستهله توضيح عن أسباب قيام هذا الاتحاد، فهو "وفاء لدماء شهدائنا"، وتعزيز مسيرة "ثورة تشرين" بتحقيق أهدافها في إنهاء النظام السياسي وتحرير العراق من الاحتلال الإيراني. لذلك "اتفقت ست عشرة تنسيقية في المحافظات المنتفضة على توحيد صفوفهم".
ثانياً، تأكيد الاتحاد على إنه "يعاهد الشعب على تصعيد الثورة السلميَّة"، ويتعاون مع الجميع، لمنع أحزاب الفساد من تشكيل الحكومة، وكذلك حلّ البرلمان وتجميد الدستور ومحاكمة قتلة المتظاهرين وخاطفيهم.
ثالثاً، يسعى الاتحاد مع بقية الثوار إلى "تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة لتهيئة البلاد لانتخابات حرة نزيهة". إذ تعمل على فرض القانون والأمن والنظام، وحماية حدود البلاد، وإلغاء الميليشيات وجميع المظاهر المسلحة خارج القوات المسلحة النظامية.
رابعاً، تعمل الحكومة الانتقالية على "وقف الهدر في أموال الشعب ومحاربة الفساد، وإلغاء إجراءات المحاصصة والتمييز وعدم المساواة والاقصاء المقيتة". وكذلك إعادة النازحين فوراً إلى مدنهم، وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين السياسيين الوطنيين، والبدء بإصلاح دوائر الدولة ومعالجة مشكلة البطالة واسعاف ملايين المواطنين الذين أفقرهم النظام الفاسد.
خامساً، تعدّ الحكومة الانتقالية "قانونيْ أحزاب وانتخابات وطنييَنْ ودستوراً جديداً"، ويجري استفتاء الشعب عليه. وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، تتيح لكل العراقيين حق الترشح والانتخاب بحرية وبلا تمييز أو إقصاء، وبأشراف القضاء العراقي ورقابة دولية.
إن الإشارة الأخيرة إلى "رقابة دولية" تُشارك إشراف القضاء العراقي على الانتخابات التشريعية والرئاسية، لها أبعاد إيجابية تنم عن شفافية واحترام إلى إرادة الشعب بما ينتخب ويختار. فعلى ما يبدو أن "اتحاد تنسيقيات الثورة العراقية" يُعدّ مكوناً كبيراً في الحراك الشعبي الدائر، لكن شأنه شأن بقية المكونات المنتفضة، هدفه الوطن لا السلطة.
على أي حال، إن المرحلة التي أوجبت انبثاق "اتحاد تنسيقيات الثورة العراقية" لتشكّل أرضية واسعة وصلبة تجاه سياسة البطش الحكومي والميليشيوي الخاضعة للهيمنة الإيرانية، فإنها صورة سلمية لاحقة عن صورة مسلحة سابقة. إذ في مراحل تطور المقاومة العراقية (2003-2011) ضد القوات الأميركية المحتلة، وفي النصف الثاني من عام 2007، تشكّلت جبهات جهادية ضمّت العديد من الفصائل المسلحة، "جبهة الجهاد والتحرير" و"جبهة الجهاد والتغيير" نموذجاً، ولقد حققت أهدافها بالانسحاب الرسمي للقوات الأميركية الغازية.
من هنا، فإن تطور الحراك الشعبي بالمستوى الذي يجعله متمكناً في ديمومة المواجهة السلميَّة ضد العنف الوحشي، الذي تمارسه القوات الأمنية والأذرع الإيرانية، فإننا نستطيع أن نستشف من الأهداف التي حققتها سابقاً الصورة المسلحة، أن نستدل من تطور الصورة السلمية الحالية، بأنها ستحقق أهدافها أيضاً. إذ أنها تمتلك مقومات الاستجابة الإرادية إلى هذا التحدي الخطير ضمن سياق الصراع التاريخي، الذي تفوز وتنتصر فيه الشعوب الأصيلة، وتزول مندحرة القوى الدخيلة. أنه منطق التاريخ وحقائقه المتجلية في كل مرحلة من مراحله القديمة والحديثة والمعاصرة.
إن انبثاق "اتحاد تنسيقيات الثورة العراقية" بالقدر الذي يعكس حالة الوعي والإدراك الجمعي، فإنه تأكيد قوي على أن "ثورة تشرين" سائرة بخطوات ثابتة وراسخة نحو تحقيق أهدافها، التي ضحّت وما زالت تضحي بأرواح ونفوس الشباب والشابات الغالية، في سبيل استعادة الوطن المخطوف من أحزاب الفساد والفصائل المسلحة الموالية لإيران.
ومهما كانت أبعاد إعلان الاتحاد على مستوى المحافظات المنتفضة إيجابية ومهمة، فبعد نصف السنة من حراك سلمي يومي متواصل تجاه عنف حكومي مفرط وبطش ميليشيوي وحشي، أثبتت "ثورة تشرين" ألا تراجع فيها قط. كما أن الصبر والمثابرة وتقديم التضحيات هي من سمات الثوار الناجعة، والتي تتجلى ضمن أي إطار من التشكيلات الناتجة من حراكهم الشعبي تجاه ديمومة تهدف إلى إنجاح الثورة.