حديث الأحكام العرفية في الأردن

آخر تحديث 2020-04-09 00:00:00 - المصدر: الحرة

تُدوي صفارات الإنذار في سماء المملكة الأردنية الهاشمية في تمام الساعة السادسة من مساء كل يوم، أخرج إلى شرفة منزلي بصحبة حفيدتي التي تستمع بدهشة لصوت مجنون لا تفهمه، وأرى أشخاصا يهرعون مُسرعين إلى منازلهم قبل أن تتوقف الصافرة، ويخرج صوت عسكري خشن من مكبرات الصوت يُذّكر بسريان حظر التجول سندا لأوامر الدفاع.

هذه هي عمان اليوم، سأكتب لحفيدتي في دفتر "يوميات طفولتها" عن عالم لم نشهده من قبل، عن قلق وخوف وحزن عشنا تفاصيله حين كانت طفلة صغيرة لم تُكمل سوى عام وأشهر قليلة من عمرها، وحين تكبر قليلا سأحدثها عن "جائحة كورونا" التي أبعدت أبيها عنا في ظروف صعبة بعد أن أُغلقت الحدود، وتوقفت حركة الطيران، وعن أمها وزوجتي وابنتي ـ جدتها وعمتها ـ اللواتي بقين حبيسات جدران المنزل لا يخرجن إلا نادرا؛ بسبب تعليمات حظر التجول والرعب الذي أصاب الناس من احتمالات انتشار الوباء.

ربما كنت محظوظا بسبب عملي الصحفي أنني كنت قادرا على التحرك رغم حظر التجول لأعيش تفاصيل حياة الناس اليومية، فألمس ما لم أعهده في عمّان خلال العقود الماضية؛ السيارات جاثمة على أرضها، والناس تمشي على أقدامها لتأمين احتياجاتها، والقاسم المُشترك القلق المرسوم على الوجوه، وأسئلة المستقبل المُعلقة التي لا تجد إجابات عند أحد.

هنا كما في كل مكان في أرجاء المعمورة، يسأل الناس بلهفة المُنتظر، متى سنعود لحياتنا الطبيعية؟ متى سنعود إلى عملنا؟ متى سيفتح المقهى أبوابه؟ متى سيعود الضجيج الجميل، متى سنخلع القفازات من أيدينا، ونُزيل الكمامات عن أفواهنا، فقد اشتقنا أن نستنشق هواء ملوثا بعوادم السيارات بعيدا عن "المُعقمات"؟

الضغوط لا تتوقف عن الحكومة مُطالبة بإعادة الأعمال حتى لا يحدث انهيار اقتصادي

كل يوم ينتظر الأردنيون بفارغ الصبر الإيجاز الصحفي لوزيري الدولة لشؤون الإعلام والصحة عن عدد الإصابات بفيروس كورونا، وكلما تناقصت الأعداد تنفسوا الصُعداء مُستبشرين بالفرج وباقتراب خروجهم من العُزلة.

هل سيخرج الأردن من الأزمة قريبا؟ وهل يكفي أن يتوقف عن تسجيل إصابات بالفيروس؛ ليُعلن عن تعافيه، والعودة إلى ما كنا عليه، إذا ما كانت الجائحة لا تزال تضرب العالم؟ أسئلة لا تعرف الحكومة الأردنية، ولا حكومات العالم إجابات قاطعة عليها.

في الأردن تُصارع الحكومة لابتكار معادلة تصون الأمن الصحي وتمنع انتشار الوباء، وبالوقت ذاته إعادة الحياة تدريجيا إلى مسارها، وكلما تقدمت خطوات إلى الأمام عرقلتها ظهور إصابات وبؤر جديدة للعدوى.

في منتصف شهر أبريل الجاري ستنتهي العطلة التي جددتها الحكومة للمرة الثانية للعمل في القطاعين العام والخاص، والضغوط لا تتوقف مُطالبة بإعادة الأعمال حتى لا يحدث انهيار اقتصادي، فتواجه البلاد كارثة وتداعيات سياسية واجتماعية.

بصل وبيض

في الكويت كانت هناك هائجة بصل، تهافت الناس على شرائه بشكل غير طبيعي حتى أصبح نافذا في معظم الجمعيات التعاونية وأسواق الخضار والفواكه

حكومة الدكتور عمر الرزاز التي تلقت التقدير والإشادة منذ بدء الأزمة التي شارفت على الشهر بدأت تتعرض للانتقاد، و"شهر العسل" الذي عاشته بالتفاف الناس حولها أوشك على الأفول، والضرب تحت الحزام بدأ يظهر أكثر وأكثر، والمبالغة في تسليط الضوء على ما سُمي فضيحة "التصاريح المزورة" صدّعت بيت الحكومة وتسببت باستقالة وزير الزراعة، واقتربت من سُمعة وصدقية وزراء آخرين، وزاد "الهرج والمرج" عقب توقيف نائبين في البرلمان على خلفية خرقهما لقرار حظر التجول، وما صاحب هذا الإجراء من نقاش قانوني حول صوابية هذا القرار.

كل يوم يمضي قبل أن تجد الحكومة حلا يُنهي حظر التجول تتصاعد وتتزايد فيه التحديات، والضغوط، وتُصبح الحكومة هدفا سهلا، وتحت المطرقة، وتكثر الهواجس والمخاوف، وتتسلل معها دعوات إلى إعلان الأحكام العرفية، وتعليق عمل الدستور.

إعلان الأحكام العرفية سندا للمادة 125 من الدستور لم يعد حديثا عابرا لرئيس الديوان الملكي الأسبق جواد العناني، ووزير الداخلية الأسبق حسين المجالي؛ بل أصبحت مثار جدل ونقاش في الأوساط السياسية، رغم أن الملك بموافقته على إعلان قانون الدفاع ذكّر رئيس الحكومة بضرورة ألا يمس بالحقوق السياسية والمدنية، والحريات العامة للمواطنين.

ليس مهما المبررات التي تُساق للدعوة لإعلان الأحكام العرفية سواء لردع المُستهترين والمُتنمرين على القانون، الذين لا يلتزمون بحظر التجول، ويهددون السلامة والصحة العامة، أو لمجابهة المخاطر الاقتصادية المُحدقة بعد هزيمة فيروس كورونا، المهم والمُقلق بعد أكثر من 30 عاما على إنهاء الأحكام العرفية أن هناك من يرى أن الديمقراطية لا تُسعف الدولة للنهوض ومواجهة الكارثة، والخيار الوحيد تعطيل الدستور والقوانين، وإعطاء سُلطة مُطلقة لاتخاذ القرارات والإجراءات والتدابير بمعزل عن حكم الشعب وإرادته.

لم أسمع في إيطاليا وإسبانيا الدولتين الأكثر تضررا من جائحة كورونا، وكذا الأمر في أميركا من يُطالب بتعطيل الدستور لإنقاذ البلاد، ولا اعتقد أن هذا يمكن أن يحدث، أو يروج له إلا في عالمنا العربي؛ فالديمقراطية ليس أكثر "تعويذة" يمكن استبدالها إن لزم الأمر.

الأزمات والتفكير اللحظوي

النظام الصيني الشمولي الذي يضع أكثر من 300 مليون كاميرا مراقبة في الفضاءات العامة قد ينقذ حياة لا تتعدى كونها مجرد أرقام، أقصد قد ينقذ حياة في مستوى وجودها البيولوجي، ولكنها حياة ـ في جوهرها ـ كموت، أو هي دون الموت

في التفاصيل، الوزير السابق العناني وصف الوضع في الأردن "بأنه خطير، ويحتاج إلى أحكام عرفية لمدة سنتين للخروج من أزمته الاقتصادية، واتخاذ إجراءات جريئة في الشأن الاقتصادي تضمن قيام كل جهة بمسؤولياتها، ويجب أن تعلو مصلحة الوطن على مصلحة الأفراد بتكاتف الجميع للخروج من النفق المظلم".

كلام العناني عن مخاطر العجز المالي الكبير للموازنة، والحاجة إلى خطط وإجراءات سريعة لا تعطلها قوانين، ونقاشات، وضغوط في البرلمان والشارع بالتأكيد تجد لها مؤيدين ومناصرين، فالاعتقاد السائد أن ما بعد الأزمة الصحية هو الأخطر، فالسياحة التي شهدت نموا في العام الماضي ستتدمر، والبطالة ستزيد بشكل ملحوظ بعد تسريح الكثير من المؤسسات والمصانع في القطاع الخاص لموظفيها، وشركات كثيرة ستتعثر وتُفلس، وستتعاظم مشكلة الدولة في تأمين الرواتب، والقدرة على حماية الفئات المُهمشة والفقيرة، وستتراجع قيمة تحويلات المغتربين، هذا إن لم يعد عدد كبير منهم للبلاد.

في خِضم هذه الأزمة المُستفحلة، والمخاوف السائدة تقرأ في السوشيل ميديا من يدعو لتأميم الشركات والبنوك، ووضع يد الدولة على حسابات الأثرياء ورجال الأعمال الذين يجد بعضهم نقدا موجها لهم؛ لأنهم لم يتبرعوا للحسابات التي أنشأتها الحكومة لمساعدة الدولة في هذه الأزمة.

المقلق بعد 30 عاما على إنهاء الأحكام العرفية أن هناك من يرى الديمقراطية لا تُسعف الدولة للنهوض بمواجهة الكارثة

محافظ البنك المركزي زياد فريز قال "من المُبكر التكهن بحجم التأثير السلبي على اقتصاد الأردن بسبب إجراءات العزل"، ولا يمكن التكهن أيضا بتأثير القرارات التي اتخذها البنك المركزي بخفض أسعار الفائدة، وضخ سيولة نقدية تُقارب 700 مليون دولار، وتوجيه البنوك بمنح قروض بمجموع كلي يُقدر بنصف مليار دينار أردني، وبفائدة لا تزيد عن 2 بالمئة لمساعدة الشركات المتضررة.

قد تكون الحكومة الأردنية بإجراءاتها الصحية المتشددة نجحت إلى حد ما في منع تفشي وباء كورونا، لكنها لن تستطيع أن تضع حدا للصعوبات والمخاطر الاقتصادية التي تُخيم على المستقبل.

في استطلاع لمركز الدراسات الاستراتيجية يتوقع 67 بالمئة من الموظفين الاستغناء عنهم، و44 بالمئة من موظفي القطاع الخاص لم يستلموا رواتبهم لشهر مارس الماضي، و36 بالمئة استدانوا من أصدقائهم وأقربائهم للإنفاق على أمورهم المعيشية، و80 بالمئة من الشركات تأثرت بشكل سلبي بالإغلاق، و86 بالمئة من عُمّال المياومة والفئات الفقيرة تأثرت بإجراءات الحكومة، وخاصة حظر التجول، و74 بالمئة يعتبرونها تؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد.

"خلية الأزمة" في الحكومة تدرس سيناريوهات كثيرة للتعامل مع التحديات، وكل يوم مُطالبة بإجابة الشارع على أسئلة تشغله، ولا تعرف قطعا حلولا لها. ففي الأيام الماضية حفل السوشيل ميديا بمطالبات بإعادة أردنيين علقوا خارج الوطن، وتحديدا الطلبة، أو ممن كانوا خارج البلاد حين أوقفت حركة الطيران، ويحتدم الجدل بين مؤيد ومعارض، وتكتفي الحكومة على لسان وزيري الخارجية والإعلام بالإجابة بأنها تدرس هذا الأمر المهم بجدية.

سيتذكر الأردنيون هذه الحقبة من حياتهم، سيتذكرون كيف شغلهم رغيف الخبز، وأوجعهم الابتعاد عن أحبتهم، والعزلة في بيوتهم، ولهفتهم وحيرتهم في العثور على إجابات مطمئنة وحاسمة أن الحياة ستعود إلى عهدها!