تسعة عقود من حياة المعماري الرائد رفعت الجادرجي (1926- 2020)، عايش خلالها فترات نهوض العراق وتراجعه، انتهت ليلة أول من أمس برحيله في لندن، وسط معلومات أوليّة عن إنّ سبب الوفاة كان بفعل إصابته بفايروس "كورونا".
مبانٍ عدة تركها الراحل في العراق، منها "نقابة العمال" و"بدالة السنك" و"الاتحاد العام للصناعات"، فضلاً عن قاعدة نصب الحريّة، ونصب الجندي المجهول الأوّل الذي أزاله النظام السابق 1982، إضافة إلى دائرة التأمين في الموصل التي طالها التخريب بعد الحرب الأخيرة مع داعش، ومعمل سمنت الكوفة، وعدد من فروع مصرف الرافدين ببغداد.
ابن بغداد العائد
ينتسب هذا المعماري إلى الأرستقراطية العراقيّة والعائلات صاحبة الحضور القوي في تاريخ بغداد الحديث منذ العهد الملكي، فهو ابن كامل الجادرجي، مؤسّس كلّ من جريدة "صوت الأهالي" والحزب الوطني الديمقراطي (بالتعاون مع والد زها محمّد حديد)، أمّا جده الذي يحمل الاسم نفسه (رفعت) فقد كان رئيس بلدية بغداد أواخر العهد العثماني.
مثل هذه العائلة التي وفّرت له ظروف نشأة جيّدة وجوّاً مناسباً للتعلّم، منحت ابنها انطلاقة واعدة لدراسة فنون العمارة والتصميم في لندن، ليبدأ مشروعه بعد دراسته في جامعة "هامرسميث" والحصول على البكالوريوس من هناك 1954.
منذ أن عاد الجادرجي إلى بغداد عيّن مستشاراً في دائرة الأوقاف، ومروراً بتوالي لمساته في تصميم عدد من الأبنية، وحتّى تولّيه منصب رئيس هيئة التخطيط في وزارة الإسكان، ومستشار أمانة بغداد مطلع ثمانينيات القرن الماضي، تعزّز المسار الخاصّ الذي انتهجه بتحقيق المواءمة بين التكنولوجيا والطابع المحلي، ليكون معماراً معاصراً يستجيب لمتطلّبات الحداثة ومستجدات مدارس العمارة في العالم، يضاف إلى ذلك فهمه للعمارة بأنّها مجموعة علائق؛ مرّة مع طبيعة وبنية المجتمع الذي تنوجد فيه، وثانية مع الفنون الأخرى التي تتفاعل معها، وثالثة مع فكرة الجمال بأبعادها الفلسفيّة والثقافيّة، من دون أن يكون خاضعاً للتراث، إنّما بتطويعه في أعماله.
عمارة الجادرجي بين الأصالة والحداثة (يوتيوب)
ولعل مآل العديد من منجزاته يشبه مآل الكثير من معماريي العراق الذين صاروا بين مهاجر أو مهمل لا أحد يسمع رأيه أو يفكّر بأن يقول له: "تعال لننقذ البلاد من خرائبها المتناثرة"، إذ يبدو للمتابع إنّ تلاشي الطبقة الوسطى الذى جرى على مراحل متتالية، لاح العوائل التي كانت ترعى نشوء مثل هذه الشخصيات والأسماء المعماريّة، وهنا يمكن تذكّر: محمّد مكية، زها حديد، هشام وقحطان المدفعي، ورفعت نفسه، فهؤلاء أمثلة واقعيّة وحيّة تؤيّد هذا الزعم. غير نصب الجندي المجهول ودائرة التأمين التي أشير إليهما أعلاه، أهمل أو اندثر أكثر من عمل لرفعت، وسط عواصف الأحداث الجسام التي حلّت على العراق، فحينما يتهدّم الإنسان تتهدّم عمارته وبيئته بلا شك.
علاقته بعراق ما بعد صدّام، شهدت حادثة واحدة يوم قام بتصميم علم جديد في فترة مجلس الحكم 2004، قوبل بانتقاد شديد لجهة وجود اللون الأزرق الذي يجعله قريباً من لون العلم الإسرائيلي، ليتساءل وقتها ساخراً: "هل صار اللون الأزرق حكراً على إسرائيل فقط!". بعدها فضّل البقاء بعيداً من دون انخراط في المشهد العراقي الداخلي، يتابع أخباره ويفتش عن أمل بغد آخر.
بين التايمز وساحة التحرير
في 2019، ومن منزله المطلّ على نهر التايمز، تابع المعماري الكبير أخبار ثورة شبان العراق وهم يهتفون لوطنهم في ساحة التحرير. كان يفرحه هذا المنظر الذي أسهم في صناعة معلَمه الأبرز المتمثّل بنصب الحريّة، حيث تجسّدت فيه شراكة إبداعيّة بينه وبين الفنّان الرائد جواد سليم.
رؤية معمارية فريدة (يوتيوب)
أسعده كثيراً أنّ الحريّة المعلّقة في النصب شغلاً ومعنى فنيّاً، صارت محفّزة لأجيال جديدة من العراقيّين وهي تتكاتف وتتحدّى من أجل الحريّة والكرامة. أبرز ما ناله من جوائز: "الأغا خان" 1986، جائزة الشيخ زايد للكتاب 2008 عن مؤلفه "في سببية وجدلية العمارة"، و"تميّز للإنجاز المعماري مدى الحياة" 2015. أما أهمّ ما أصدره من كتب: "شارع طه وهامر سميث"، "الأخيضر والقصر البلوري"، "جدار بين ضفتين" (إصدار مشترك مع زوجته)، "دور المعمار في حضارة الإنسان"، "صفة الجمال في وعي الإنسان"، "مقام الجلوس في بيت عارف آغا"، "حوار في بنيوية الفنّ والعمارة".
حسّ توثيقي
من يطالع كتاب "Rifat Chadirji: Building Index" (من منشورات المؤسّسة العربيّة للصورة)، يدرك مدى الحسّ التوثيقي لهذا المهندس الذي لم يترك صغيرة أو كبيرة في عمل من أعماله إلا ووثّقها بروح الفنّان الفوتوغرافي، إذ تجد الكثير من الصور التي التقطت بحرفية عالية. ويتأكّد ذلك أيضاً من خلال ظهور قديم له في فيلم عن شارع الرشيد وهو يتجوّل فيه بكاميرته ويعقب على كيفية تطوير هذا المكان التاريخي الذي لم ير النهوض من بعده.
في حياة رفعت جرأة عالية في الإعلان عن قناعاته، سواء المتعلّق منها بفكرة الدين أو ما يخصّ الإنجاب، إذ نلمح في سيرته تلك النزعة الوجودية المتفرّدة التي تتضح من اتفاقه مع زوجته ألا ينجبا أولاداً.تمرّدَ رفعت على ثوابت أبيه المنضبط في كلّ شيء ومنها تكوين أسرة وتربية أبناء، لكنّه أخذ منه الأناقة والرقي والانتماء الحقيقي لبغداد والعراق، من دون استدعاء آخر لهويّات مكوناتية صعدت خطاباتها في راهن البلاد اليوم. رفعت وذووه لم تكن سيرتهم مادّة فقط لكتاب زوجته وشريكة عمره بلقيس شرارة، "هكذا مرّت الأيّام"، بل دليلاً آخر على انكفاء الأرستقراطية والطبقة الوسطى أيضاً منذ الحرب العراقيّة- الايرانيّة وما تلاها. وبرحيله طويت صفحة من الصفحات الناصعة في العراق، لا ندري من سيحفظ ما تبقى من آثارها في ظلّ العبث السياسي والفشل المتواصل للإدارات الحكوميّة.