أزمة العالقين السودانيين في مصر تتصاعد .. أربعة آلاف يطلبون العودة

آخر تحديث 2020-04-27 00:00:00 - المصدر: الحرة

رابح فيلالي- واشنطن 

أول ما يلفت انتباهك وأنت تلتقي بالدكتور منصور خالد هي تلك الأناقة التي يحرص عليها في كل ظهور وهو لا يبالغ في ذلك ولا يتصنع بالقدر الذي كان يمارس طبيعته الإنسانية التي كانت تؤمن بالفكرة وجمالها والتمسك بها عند كل اختبار في محطات الحياة المتقلبة والمختلفة. 

كان هذا انطباعي الأول عن الديبلوماسي الذي شغل منصب وزير الخارجية في حكومة الرئيس الأسبق الراحل جعفر النميري في السودان قبل أن تنتهي به الحياة ليكون واحدا من منظري الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب والأكثر من ذلك أن يكون كبير مستشاري رئيس الحركة ونائب الرئيس السوداني السابق الراحل جون قرنق.

هذا التحول في حد ذاته كان واحدا من الأسئلة الكبيرة التي شغلت تفكيري وأنا أمد يدي مصافحا الرجل للمرة الأولى عندما كانت مفاوضات اتفاق السلام بين حكومة الخرطوم برئاسة عمر البشير حينها والحركة الشعبية على الحدود السودانية-الكينية بمنتجع نفاشا السياحي. 

في تلك المفاوضات أكرمني الصديق العزيز عضو الفريق المفاوض الجنوبي ياسر عرمان، الشمالي الآخر الذي أنضم إلى حركة الجنوب هو دليلي ومدخلي إلى المفاوضات، حيث يدخلني في كل صباح إلى مقر المفاوضات المحصن والذي كان يخضع لحراسة القوات المسلحة والأمن السري الكيني وقيادات من قوات الاتحاد الأفريقي. 

جلس ياسر بابتسامته العريضة وملامحه الجادة، وقال لي: "الدكتور منصور يمكن أن يكون أكثر قدرة على شرح صعوبات المفاوضات الجارية حاليا".

بابتسامة واضحة وبلباقة الديبلوماسي طويل المسار قال لي مازحا: "أتعبوك هؤلاء السودانيون يا أستاذ فيلالي كما هي العادة في أدب السودانيين الجم". 

تجاوزنا تفاصيل المفاوضات بكل تعقيداتها في تلك المرحلة من تاريخ السودان وبكل ما انتهت إليه من اتفاق سمي بالشامل حينها وما أعقب ذلك من أحداث ومنها رحيل الزعيم جون قرنق وانفصال الجنوب بالكامل عن السودان وإعلانه دولة مستقلة وانخراط الإخوة الفرقاء في جوبا في حرب أهلية طاحنة نسفت بحلم الثورة بالكامل وأقعدته أرضا.

كان يبدو المشهد أمام العين لافتا جدا. هؤلاء الشماليون الثلاث منصور خالد وياسر عرمان ومالك عقار هم قوة قرنق الفكرية وأول علامات التوجه المستقبلي الذي كان يراه الرجل في تلك المرحلة والتي كان واضحا جدا من خلالها أن الزعيم الجنوبي لا يملك أي عاطفة للفكرة التي روجها لها خصومه بأنه رائد فكرة الانفصال. 

منصور كان هادئا في كل الإجابات على أسئلتي السياسية والشخصية لكن هناك مسألة أخرى كانت أكثر إثارة في أحاديثه، هو ذلك العمق الفكري إذ لم يكن ليقف كثيرا أمام عقبات التفاوض القائمة في حدود المرحلة، بل كان يذهب بتفكيره بعيدا إلى المستقبل إلى رؤية الدولة وكيفية إعادة بناء السودان الجديد وكيفية الذهاب إلى هناك بالأسلوب الذي كان يراه رئيسه الراحل جون قرنق. 

منصور لم يكن طيلة تلك الأحاديث التي جمعتنا في مركب نفاشا السياحي ينشغل كثيرا بمسار المفاوضات الذي يظهر أنه كان  كامل الاقتناع إنه مهما طال سوف يجد طريقا إلى نهايته وأن المتفاوضين  يناورون  لأجل مزيد من المكاسب أو على الأقل تحسين شروط ومراكز التفاوض خاصة وأنه في نهاية العام 2004 كانت الملفات العالقة بين الجانبين قد حسمت أو اقتربت من الحسم النهائي.

وحتى الكثير منها حسم على مستوى فريقي التفاوض وكان القرار الأكبر على عاتق القائدين في الشمال، المخلوع عمر البشير حينها في الخرطوم وجون قرنق الزعيم الجنوبي، الذي كان يتشارك الإقامة مع مفاوضيه في واحدة من فيلات المنتجع السياحي، الأمر الذي سهل كثيرا من مهام المفاوضين الجنوبين فيما كانت مهمة المفاوضين الشماليين أعقد بقليل، لأنهم كانوا في كل مرة ينتظرون قرارا حاسما من الشمال، حتى لو كان في الجهة المقابلة وقتها نائب الرئيس على عثمان طه كرئيس الوفد الشمالي المفاوض. 

كان لابد من سؤال المليون دولار إلى الدكتور منصور خالد وهو كيف حدث هذا التحول الانقلابي من شخصية عامة ورئيس للديبلوماسية في الشمال إلى عضو قيادي في الحركة المسلحة المعارضة في الجنوب. 

بالنسبة لوزير الخارجية الأسبق فالقضية ليست بهذه الضخامة تماما، حيث هناك سودان واحد، والأمر كذلك ينطبق على ياسر عرمان كما قال وكذلك جون قرنق شخصيا الذي كان عضوا قياديا في الجيش السوداني قبل أن يتحول إلى القائد الملهم لحركة الجنوب لأن الخلاف ليس في جنوب وشمال إنما الخلاف يتمركز حول الرؤية لإدارة وحكم السودان وكيفية التصرف في حاضره والنظر لمستقبله.

مقنعة الرؤية هذه والحركة الشعبية اختارت لنفسها أن تكون عنوانا لتحرير السودان كاملا وليس مجزئا وتلك هي الفكرة الأساسية في نضالها السياسي والفكري ولذلك كان مسار نضال رئيس الحركة الراحل من المهد إلى اللحد هو سودان جديد. 

غادرت نفاشا إلى نيروبي حيث كان علي وعلى بقية المراسلين المتابعين لمفاوضات السلام انتظار مطلع العام الجديد، لأن حفل توقيع اتفاق السلام الشامل صادف أعياد الميلاد فتم التأجيل إلى مطلع العام الجديد 2005. 

واضح للعين أن منصور خالد سيكون واحدا من رجالات مرحلة ما بعد الاتفاق في السودان الجديد وثمة خبر في مكان ما من التداول الضيق يقول إن الرجل سوف يكون مقترح الحركة لمنصب وزير الخارجية في أول حكومة مشتركة في مرحلة ما بعد اتفاق السلام الشامل وحدث ذلك لاحقا. 

الرئيس البشير وقتها كان له رأي مملوء بتراكمات الماضي الطويل والمعقد في السودان حيث رفض الأمر بالمطلق استنادا إلى خلفيات شخصية وإلى قصة الديبلوماسي الشمالي الذي انضم إلى الجنوب، وأقسم بأغلظ الايمان ألا يكون منصورا وزير للخارجية طالما هو من يحكم السودان. 

رحل قرنق قبل أن يرى السودان الذي حارب لأجله وأخرج البشير من قصره ومات منصور وحيدا في الخرطوم التي أحبها كما لا يمكن للحب أن يحدث بين الإنسان والمكان، لكنه مات وهو مفكر مستقل الصوت والرأي وديبلوماسي سابق لكن بأثر عميق في تاريخ السودان الحديث وبإبهار معلن في أرواح وأفكار أولئك الذين أحبوه وأولئك الذين اختلفوا معه وعارضوه أو حتى حاربوه.