هل حقا تمردت السويد على سياسة التباعد الاجتماعي؟

آخر تحديث 2020-04-29 00:00:00 - المصدر: الحرة
هل حقا تمردت السويد على سياسة التباعد الاجتماعي

كنت أتحدث مع أحد أصدقائي عن الحظر الجزئي في مصر، متسائلا عن مدى فعاليته. يبدأ الحظر في التاسعة مساء، مما يعني أن الناس تتحرك بشكل شبه طبيعي أثناء النهار، عندما رد عليّ قائلا: ولكن الناس في السويد يمارسون حياتهم بشكل اعتيادي وهي بلد أوروبي متقدم لذا فلا داعي للقلق، فنحن في الأغلب نتبع نفس سياستهم.

تكرر نفس الموقف عندما أرسل لي صديق آخر فيديو يظهر فيه بعض الناس في السويد وهم يأكلون في أحد المطاعم، ويركبون المواصلات في مشهد أقرب لطبيعة الأمور قبل ظهور كورونا. فهل السويد لا تطبق التباعد الاجتماعي حقا؟ وهل أثبتت تجربة السويد عدم أهمية إجراءات التباعد الاجتماعي؟ هذا ما سأحاول أن أجيب عليه في هذا المقال.

مبدئيا لم تأمر السويد مواطنيها بالبقاء في المنازل ولم تتخذ قرارا بحظر التحركات مثل معظم دول العالم التي انتشر فيها الوباء. ومع ذلك فإن فرضية أن السويد لا تطبق التباعد الاجتماعي نهائيا أو أنها أثبتت عدم أهميته، هي أبعد ما يكون عن الحقيقة لثمانية أسباب:

1 ـ السويد بالفعل تطبق درجة عالية من التباعد الاجتماعي من قبل ظهور كورونا: عدد سكان السويد حوالي 10.5 مليون، أي أنهم أقل من حتى نصف سكان القاهرة الكبرى وحدها، وحوالي 10 في المئة من سكان مصر كلها. وبالتالي فالمقارنة بين البلدين غير جائزة من حيث المبدأ.

ما يشاع عن أن تجربة السويد أثبتت أن التباعد الاجتماعي أو إجراءات الإغلاق أو الحجر الصحي ليست ضرورية وليست فعالة ليس دقيقا

كما أنهم يعيشون على مساحة كبيرة وبالتالي فالكثافة السكانية وخصوصا خارج العاصمة ستوكهولم منخفضة جدا، ففي كثير من مناطق السويد يعيش الناس في بيوت يفصل بينها مساحات واسعة. كما أن 40 في المئة من البيوت أو الشقق السكنية في السويد يعيش فيها شخصا واحدا فقط، ولذا فالتباعد الاجتماعي مطبق إلى حد كبير بشكل طبيعي.

2 ـ الثقة العالية بين الحكومة والشعب السويدي: واحدة من أهم مميزات المجتمع السويدي هو الثقة العالية المتبادلة بين الحكومة والشعب، وبالتالي فعلى الرغم من عدم وجود حظر أو أمر قانوني بالبقاء في المنزل إلا أن معظم الناس يلزمون منازلهم بالفعل، بناء على نصائح الحكومة. وقد انعكس هذا إيجابيا في صورة تقليل التحركات بنسبة 50 في المئة، فضلا عن أن نسبة كبيرة من الناس يعملون من منازلهم حاليا. كما أن الحكومة قد أصدرت أمر بمنع التجمعات فوق الخمسين شخصا.

3 ـ أرقام الوفيات والإصابات عالية جدا مقارنة بجيرانها: لو قارننا نسب الإصابات والوفيات بين السويد وجيرانها من الدول الاسكندنافية وهي الأقرب لها في الظروف والطبيعة الديموغرافية لوجدنا فرقا كبيرا. فنسبة الوفيات في السويد هي 217 لكل مليون نسمة، في مقابل 34 في فنلندا، و37 في النرويج، و72 في الدانمارك. والفارق الأساسي هو أن الدول الثلاثة الأخرى طبقت إجراءات أكثر حزما من السويد.

4 ـ كبار السن يدفعون الثمن لهذه الاستراتيجية: 50 في المئة من الوفيات في السويد هم من كبار السن الذين يسكنون في دور المسنين، وهي إحدى الإشكاليات الأخلاقية في سياسة "مناعة القطيع". وعلى الرغم من أن السويد لا تستخدم هذا المصطلح إلا أن ذلك في النهاية هو ما تسعى إليه. فمناعة القطيع تعني عمليا المخاطرة بحياة كبار السن والذين يعانون من الأمراض المزمنة في سبيل تكوين هذه المناعة، والتي ما زال العلم يجهل الكثير عنها في حالة كورونا. فحتى الآن العلماء ليسوا متأكدين إذا كانت الإصابة الأولى تحمي من تكرار الإصابة أم لا، ولو فرضنا أن الإصابة الأولى تحميك من الثانية فلسنا نعرف لأي مدى زمني.

5 ـ اعترض 22 عالما سويديا اعترضوا رسميا على هذه السياسة: يوم 14 أبريل نشر 22 عالم سويدي من أهم الجامعات ومراكز الأبحاث في السويد، مقال رأي في واحدة من أهم الصحف السويدية يعترضون فيها على الإجراءات غير الحازمة التي اتخذتها الحكومة ويحذرون من خطورتها. فضلا عن انتقادات كثيرة من داخل السويد وخارجها وصفت هذه السياسة بغير المسؤولة.

6 ـ بريطانيا وقعت في نفس الخطأ: تعاملت بريطانيا بنفس الاستراتيجية وتأخرت في اتخاذ إجراءات الحجر الصحي، قبل أن تتراجع عن سياسة مناعة القطيع بعد أن أدركت أن عدد الوفيات الناتج عن هذه النظرية سيكون ضخما جدا وسيتم إغراق النظام الصحي سريعا. ولكن بسبب هذه الخطأ الفادح، وصلت الوفيات في بريطانيا لأكثر من 20 ألف (لحظة كتابة المقال) وهو يمثل 10 في المئة من وفيات كورونا على مستوى العالم حتى الآن.

تحركت نيوزيلاندا في إغلاق سريع وحاسم فضلا عن التوسع في الاختبارات وتمكنت من محاصرة الوباء بشكل ناجح جدا

7 ـ التأخر في إجراءات التباعد الاجتماعي أو اتخاذ إجراءات ضعيفة هو عامل مشترك بين الدول ذات أرقام الوفيات العالية: فالولايات المتحدة تحركت ببطء ولم تقدّر خطورة الفيروس في البداية وطبقت إجراءات الإغلاق والبقاء في المنزل تدريجيا في النص الثاني من مارس، في حين ظهرت أول حالة مؤكدة في 20 يناير. نفس الأمر تكرر في إيطاليا التي طبقت الحظر في 9 مارس أي بعد حوالي 6 أسابيع من ظهور أول حالة في 31 يناير، فضلا عن عدم التزام الإيطاليين بهذه الإجراءات في البداية. تكرر نفس الخطأ في فرنسا وإسبانيا ولذا فهناك العديد من الأمثلة التي تؤكد أن تأخر أو تراخي بعض الدول في تنفيذ إجراءات التباعد الاجتماعي أو إغلاق الأنشطة غير الأساسية نتج عنه ارتفاع في نسب الإصابات والوفيات.

8 ـ التحرك بقوة حقق فعالية عالية: من أنجح الدول في السيطرة على الموقف هي نيوزيلاندا التي سجلت 18 حالة وفاة فقط، بمعدل 4 لكل مليون نسمة، وهو من أقل المعدلات عالميا. ولرئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن تصريح شهير حيث قالت: Go hard, go early أو تحرك بقوة وتحرك مبكرا. فقد تحركت نيوزيلاندا في إغلاق سريع وحاسم فضلا عن التوسع في الاختبارات وتمكنت من محاصرة الوباء بشكل ناجح جدا. وصلت نيوزيلاندا إلى مرحلو النقاش في القضاء عليه نهائيا والوصول إلى صفر إصابات الآن، مما يؤكد على فعالية فكرة التباعد الاجتماعي.

وبناء على ذلك فإن ما يشاع عن أن تجربة السويد أثبتت أن التباعد الاجتماعي أو إجراءات الإغلاق أو الحجر الصحي ليست ضرورية وليست فعالة ليس دقيقا. فالبيانات التي نمتلكها اليوم تقول إن الدول التي تحركت سريعا لتطبيق التباعد الاجتماعي بقوة هي التي نجت بأقل الخسائر، بينما الدول التي تراخت دفعت ثمنا غاليا لذلك حتى لو تأخرت ذروة انتشار المرض لأسباب متعددة، بعضها نعلمها وبعضها ما زلنا نحاول فهمها.