على الرغم من التغييرات المؤثرة التي أنتجتها حركة الاحتجاج العراقية بين أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وفبراير (شباط) 2020، إلا أن تجددها يقع الآن ضمن تقديرات معظم العاملين في الحقل السياسي بالعراق.
القوى الشيعية تتراجع
على سبيل المثال، عندما أسقطت الاحتجاجات حكومة عادل عبد المهدي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، كان متوقعاً أن تكلف القوى السياسية الشيعية أحد قادتها البارزين بتشكيل حكومة جديدة، لكنها لم تفعل، خشية منح الشارع المتفجر آنذاك مبرراً لمزيد من التصعيد.
كان ذلك مؤشراً على أن أسطورة المحاصصة التي تفرض أن يكون رئيس الوزراء العراقي، شيعياً حزبياً ينتمي إلى إحدى القوى الإسلامية التقليدية، في طريقها إلى الانهيار.
وحين عملت الأحزاب الشيعية على اختيار بديل لعبد المهدي، لم تنظر في صفوفها الأولى ولا حتى الثانية، بل فضلت ترشيح شخصية بعيدة عنها نوعاً ما، لتحصن نفسها من الشارع مؤقتاً، فكان اختيار محمد توفيق علاوي، وهو شيعي ليبرالي، بمثابة إعلان عن تغيّر قواعد لعبة اختيار رئيس الوزراء، بحيث صار الجمهور شريكاً أساسياً فيها.
لم ينجح علاوي في مفاوضات تشكيل الحكومة، بعدما حاول تحدي السنة والكرد، انطلاقاً من أنه مرشح أزمة، ليس عليه أن يلتزم بضوابط المحاصصة، لكن المعبد انهار فوق رأسه، ووجد نفسه عاجزاً عن إقناع البرلمان بالانعقاد لمنحه الثقة.
استمرار المساومة
في هذه الأثناء، كانت حركة الاحتجاج تراقب حراك رئيس الحكومة المكلف الذي حُسب عليها بادئ الأمر، قبل أن تنفض من حوله، معلنةً أنه مجرد امتداد للمساومة السياسية التي ضيعت قرابة 17 سنة من عمر العراق، من دون الشروع في بناء الدولة.
جاء المكلف الثاني عدنان الزرفي بزخم أكبر، وعلى الرغم من انتمائه الشيعي الصريح، إلا أنه لم يكن مرشحاً ولا مدعوماً من أي حزب شيعي وازن.
قاتل الزرفي كي يصل إلى البرلمان، لكنه وجد الأبواب مغلقة في طريقه، فاضطر للانسحاب، تاركاً مهمة التكليف لرئيس جهاز الاستخبارات مصطفى الكاظمي.
الزرفي والكاظمي متشابهان
والكاظمي، مرشح قديم - جديد لهذا المنصب، إذ سبق أن تنافس مع عبد المهدي على رئاسة الحكومة في عام 2018، وطُرح اسمه أخيراً مع علاوي والزرفي أيضاً.
واللافت، أن الكاظمي اشترك مع الزرفي في أنهما نالا القدر الأقل من الاعتراض في ساحات الاحتجاج، ولكن هذا لا يعني الترحيب بهما.
عندما استقرت الأمور للكاظمي، كانت أسعار النفط هوت إلى معدلات تاريخية، فيما يواصل فيروس كورنا تفشيه في أصقاع العراق والعالم، متسبباً في إغلاق عام، ومخلفاً خسائر اقتصادية كارثية.
ولأن العراق بلد أحادي الاقتصاد، يعتمد على بيع النفط بشكل أساسي لتمويل احتياجات موازنته السنوية، فكانت معاناته مضاعفة.
توقعات قاتمة
وبينما تنتظر تشكيلة الكاظمي الحكومية الضوء الأخضر للمرور عبر البرلمان، يضع خبراء في طريقها توقعات قاتمة، ينتهي بعضها إلى احتمال تحفيز الحراك الشعبي ضد الطبقة السياسية.
ويقر معظم الساسة في العراق بأن الكاظمي لا يملك عصاً سحرية لمعالجة مشكلات البلاد المتراكمة منذ 17 سنة. ولعل أهم بواعث قلق الطبقة السياسية من إمكانية تفجر حركة الاحتجاج مجدداً، يتصل بعجز منظومة الطاقة الوطنية في البلاد عن تلبية حاجات السكان من الكهرباء، خلال فصل الصيف الذي بات بإمكان الناس الشعور بمقدماته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شرارة الكهرباء
وخلال السنوات الماضية، عندما كانت الحرارة تتجاوز نصف درجة الغليان في شهرَي يوليو (تموز) وأغسطس (آب)، لا سيما في المحافظات الجنوبية والوسطى، كانت الحكومة توفر الكهرباء لمدة لا تزيد على 10 ساعات خلال اليوم.
لذلك، كان ملف الكهرباء، محركاً أساسياً لكل فعاليات الاحتجاج الرئيسية في الأعوام 2011 و2015 وصولاً إلى 2019.
وفي حال عمّقت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن انهيار أسعار النفط، معدلات البطالة المرتفعة أساساً في العراق، بالتزامن مع نقص معدلات تزويد السكان بالكهرباء، فإن اكتظاظ شوارع المدن الوسطى والجنوبية خلال أشهر الصيف المقبل قد يكون مسألة وقت.
سلاحان بيد الكاظمي
لذلك، تقول مصادر عراقية إن خطة الكاظمي لمواجهة أعباء فترة ولايته المنتظرة، تقوم على ركنين أساسيين، الأول هو إيجاد مشترين لنفط العراق الحائر في الأسواق، لتوفير سيولة عاجلة تمكنه من معالجة أزمة البطالة، والثاني عقد تفاهمات عاجلة مع دول مجاورة، في مقدمها السعودية، للحصول على طاقة كهربائية تساعد البلاد على اجتياز أزمة الصيف.
وتقول بسمة بسيم، وهي برلمانية سنية عراقية، إن شبكة العلاقات الخارجية الواسعة التي يتمتع بها الكاظمي، قد تكون المخرج من أزمات البلاد الحالية، متوقعةً أن تحظى الحكومة الجديدة بتسهيلات دولية في مجال تسويق النفط والحصول على الكهرباء.
لا ضمانات
ومع الصعوبات المتوقعة في كلا المسارين، فإن تحقيقهما بالحد الأدنى، لن يوفر أي ضمانات تمنع حركة الاحتجاج من الانطلاق مجدداً، إذ لا يزال جمر الشارع يتقد تحت الرماد، ضد الطبقة السياسية التي تورطت في حملة قمع وحشية غير مسبوقة ضد تظاهرات أكتوبر الماضي.