نور هشام سليم... واعتذار رئيس وزراء بريطانيا

آخر تحديث 2020-05-09 00:00:00 - المصدر: الحرة

أفضل ما يعبر عن مخاوفي من الوضع في لبنان اليوم هي مقولة جبران خليل جبران عن أن "ثمة أشياء لا تخضع للتجربة، وحين تخضع يكون ثمن الدرس باهظا جدا".

وأقرب تجربة تأتي إلى الذهن هي تجربة سوريا حيث بدأ حراكا شعبيا عام 2011 بمبادرة من مجموعات مدنية (سميت لاحقا التنسيقيات) لإسقاط نظام ديكتاتوري معروف عنه أنه مارس، ولا يزال يمارس، أبشع أنواع القمع لعقود من الزمن وكنّ العداء لغالبية شعبه.

طبعا هناك فوارق كثيرة بين الوضعين اللبناني والسوري تبدأ بطبيعة النظام السياسي ولا تنتهي بتركيبة النظام الاقتصادي والاجتماعي وتبعات الحرب في لبنان على قيمه المجتمعية... لكن مشاهد المواجهات المتقطعة ـ من مشاهد اعتداءات الثنائي الشيعي وبعض حلفائه على المتظاهرين منذ أكتوبر 2019 إلى ما جرى في طرابلس وصيدا في الأسبوعين الأخيرين ـ تحمل مخاطر جمة أبرزها إمكانية دفع الحركة الاحتجاجية في لبنان باتجاه مسار مشابه لما حصل في سوريا بعد أقل من سنة على انطلاق المظاهرات في درعا عام 2011.

الحرب السورية ـ بكل مآسيها وإخفاقاتها ـ أتت نتيجة تحول أصاب حراكا ارتكز في بدايته على مطالب مشروعة نابعة من وجع الشعب السوري وكان أغلب قادته في حينها من النشطاء المدنيين. لم يكن التحول بسبب عدم أحقية المطالب أو قلة وطنية النشطاء الأساسيين بل كان بسبب تداخل عوامل عديدة دفعت الحراك إلى الهلاك، من عسكرة النظام للحراك وممارسات أقسى أنواع القمع واستهداف الناشطين المدنيين، إلى دخول الأجندات الإقليمية من الجارة الأقرب تركيا إلى "الإخوان" الأبعدين في مجلس التعاون وصولا إلى ضفة الخليج الشرقية وما بعد بعد المضيق. 

أجازت السلطات اللبنانية لأحزاب سياسية وميليشيات بأن تمارس العنف تجاه المتظاهرين من دون أن ترف عين القوى الأمنية أو القضاء المولج حماية حقوق المواطنين المنتهكة

يضاف إلى العامل الإقليمي تلكؤ الغرب ـ المعروف بنفسه القصير ـ الذي لم يوفر للمعارضة السورية دعما ثابتا وهادفا ومنهجيا مما أمعن في إضعافها ودفع معظم مكوناتها إلى "اللجوء" لمن "يدفع أكثر" من القوى الإقليمية، لتتضاعف قدرة هذه الأخيرة على تحريف مسار الحراك. 

ومما زاد الطين بلة عدم قدرة المكونات الأساسية في المعارضة على بلورة رؤية موحدة ليس فقط للتعامل مع النظام بل والأهم للتعاطي مع التحديات المستجدة.

لا يخفى على أحد طبعا أن ألاعيب النظام السوري وجرائمه ساهمت بشكل مباشر في عسكرة الحراك وإخفاقه، لكن هل يمكن أن تخوض حربا ضد نظام ديكتاتوري كنظام الأسد ولا تتوقع مناورات وجرائم؟ 

ولن أنسى هنا، الخلاصة الواقعية والمبكية التي شاركني بها أحد قيادات المعارضة عام 2015 حين قال لي: "لم نعرف ما هي تبعات قراراتنا ولو عرفنا لم نكن أصلا بوضع نستطيع فيه تغيير النتيجة". ومن شدة إحباطه اعتزل محدثي العمل السياسي وبدأ بالكتابة من منفاه.

أجد نقاط تشابه عديدة بين وضع الحراك السوري في عامه الأول 2011 ـ 2012 ووضع لبنان اليوم. فالنظام اللبناني ـ الذي هو أصلا نظام عنقودي تحكم مكوناته علاقات خلافية متلازمة مع شبكة مصالح متداخلة أثبت بالفعل إجرامه بأشكال مختلفة. 

فمن جهة، لم يكتف جهابذة الحكم في لبنان بالتفرج سبعة شهور على المواطن وهو يرزح تحت رحمة القطاع المصرفي وبعض الصرافين وتجار الهيكل حتى تؤكل مدخراته ويجرد من مقدراته ويتقلص مدخوله إلى الربع في أقل من عام، بل يهرول أركان هذه الطبقة إلى إنقاذ أموالهم الخاصة من خلال تحويلها إلى خارج لبنان. 

تقع اليوم مسؤولية وأد عسكرة الحراك في لبنان على الجميع دون استثناء

ومن جهة أخرى، أجازت السلطات اللبنانية لأحزاب سياسية وميليشيات متنوعة (منها منظم ومعروف ومنها عفوي) بأن تمارس العنف الجسدي والمعنوي تجاه المتظاهرين والمعتصمين من دون أن ترف عين القوى الأمنية أو القضاء المولج حماية حقوق المواطنين المنتهكة. 

وفي بعض الأحيان كانت مقاربة الأجهزة نفسها قمعية وعنيفة ـ مما أدى في أكثر من حالة إلى مقتل متظاهرين تبين أنهم غير مسلحين ـ ليسود منطق الإفلات من العقاب كما تعودنا دوما. وتراكم هذه المظالم لدى شريحة كبيرة من المجتمع تساهم مباشرة في خلق بيئة حاضنة للعنف.

كذلك، لا يوجد ما يؤشر على أن للدول الغربية اهتماما بلبنان أو بمساندة حراكه بما لا يختلف كثيرا عما فعلت في سوريا. يبدو الأمل معدوما بأن تبلور مكونات الحراك وقياداته المتعددة الألوان رؤية مشتركة وهادفة أو آلية عمل فعالة تسمح لها بالتصدي للتحديات. 

من جهة أخرى، لم يستطع لبنان يوما دفع التدخلات الإقليمية والخارجية، فأغلب اللاعبين الإقليميين هم أنفسهم في سوريا ولبنان وان كان زخم تدخلهم ـ لغاية الآن ـ ضمن حدود وبنسب متفاوتة ومغايرة لما استثمروه في سوريا. 

إذا ومع مراعاة مبدأ النسبة والتناسب وعدم الوقوع في فخ التعميم، ليس صعبا التماس أوجه الشبه بين الوضع السوري في بداية أزمته ووضع لبنان حاليا. فكل العوامل المذكورة آنفا هي عوامل متحركة وأي تعديل بسيط سيقربنا من حالة العنف المستشري في سوريا.

أما السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة هو "لماذا لا يمنع المجتمع نفسه من الانزلاق إلى دوامة العنف"؟ هنا تبرز أهمية منسوب "القوة الذاتية" أو درجة القناعة بالقدرة على التغيير (معادلة الأمل / اليأس) الذي غالبا ما يؤثر في سلوك الأفراد والجماعات. 

في خضم معارك الجولة الأخيرة من حرب لبنان في خريف عام 1990 وأسابيع ما قبل الغزو السوري للمناطق المسيحية في لبنان أذكر جيدا مقولة بعض الأقارب والجيران في بيروت عن أن "الحالة متردية لدرجة أننا نقبل بأن يحكم لبنان من الشياطين إذا استطاعوا تأمين الضروريات". وهكذا سكتت غالبية سكان تلك المناطق عن النهاية المهينة للمعارك بين الجيشين اللبناني والسوري وعن بربرية هذا الأخير في لبنان، فقط لغياب البديل المقبول. 

في بعض الأحيان كانت مقاربة الأجهزة نفسها قمعية وعنيفة  مما أدى في أكثر من حالة إلى مقتل متظاهرين تبين أنهم غير مسلحين ليسود منطق الإفلات من العقاب كما تعودنا دوما

وعام 2016 سمعت من أصدقاء سوريين هم أصلا غير مناصرين للأسد شعروا بعدم القدرة على التغيير وخسارة الأمل بتحقيق الحد الأدنى فرضخوا لهيمنة الميليشيات على قرار المعارضة بينما ذهب قسم آخر منهم إلى منزلق القبول بالأسد على أنه "أفضل الشرور". 

يواجه الشعب اللبناني اليوم معضلة الاختيار بين السيئ والأسوأ إذ أنه خسر الغالي والرخيص ومضى أكثر من سبعة أشهر ليرى فقط رحيل حكومة لتأتي أخرى تضم بالأغلب مستشاري أو وكلاء مكونات الحكومة الراحلة. فالمواطن/ة في لبنان اليوم لا يشعر بأن لديه ما يخسره ومن الممكن أن يقبل بمنطق "فلنجرب العنف علّه يعطي نتيجة". وهذا ما تتمناه بعض القوى الداخلية والإقليمية كجزء من حساباتها لإعادة "توازن الرعب المذهبي" في لبنان.

تقع اليوم مسؤولية وأد عسكرة الحراك في لبنان على الجميع دون استثناء: القطاع الخاص والعام والنقابي/المدني والأكاديمي ومن في الحكم ومن خارجه (بخياره أو بالصدفة) وغيرهم.  يجب ـ بأي ثمن ـ منع تسلل أجندة ترى في العسكرة فرصة لتصفية حسابات معينة. لأن من في الحكم، وإن كان يعتقد أنه سيكسب مرحليا، لكنه سوف يصبح مجرد ظل لبعض القوى كما هو حال الأسد في سوريا أو حكومة الوفاق في ليبيا أي حاكم لا يحكم ومن في الضفة الأخرى سوف يصبح جسما هشا مشابها لبقايا المعارضة السورية. كل هذا بينما تتحكم بالقرار مجموعات مسلحة من جهة وقوى إقليمية من جهة أخرى والشعب يرزح بينهما.

أملي أن نتعلم من الحرب في سوريا وألا نجرب خيار التسليم بالعنف أو بعسكرة الحراك لأن "ثمة أشياء لا تخضع للتجربة، وحين تخضع يكون ثمن الدرس باهظا جدا".