قصص قديمة لم تروَ قط .. أول أدب رحلات عربي يصف العالم الجديد في القرن السابع عشر

آخر تحديث 2020-05-17 00:00:00 - المصدر: قناة التغيير


كيف تكتب مذكرات واقعية عن عالم جديد تصفه لقراء لم يروه بأنفسهم قط، وربما لم يكونوا قد سمعوا به على الإطلاق، أو قد يعتبره بعضهم نوعا من الخيال الأدبي المغرق في الأساطير؟

كان هذا هو التحدي الذي واجه رحالة عربيا هو القسيس إلياس بن حنا الموصلي في القرن 17 عندما شرع في كتابة ما يبدو أنه أول أدب مهجر ومذكرات عربية عن العالم الجديد خلف المحيط الأطلنطي.

كان الموصلي كاهنا عربيا عراقيا ومسيحيا ورغم قلة المعلومات عن سيرته المبكرة وتاريخ ميلاده، فإنه دوّن رحلته إلى أميركا أو العالم الجديد الذي اكتشف حديثا وقتها، إذ بدأ ترحاله من بغداد سنة 1668 وقصد إلى القدس ثم حلب وأنطاكية وقبرص وإيطاليا ثم فرنسا وإسبانيا والبرتغال قبل أن يعبر المحيط الأطلنطي في رحلة بحرية متجهة إلى شمال شرق القارة الجنوبية في المنطقة المعروفة حاليا بفنزويلا.

ومن شمال أميركا الجنوبية توجه الموصلي إلى عدة مناطق في أميركا اللاتينية الحالية واستقر في عاصمة البيرو لفترة، ليكتب رحلته كأول عربي مشرقي يدوّن مذكراته في العالم الجديد، قبل أن يعود إلى روما وينشر نص الرحلة المثيرة.

أدب الرحلة العربي
وفي المذكرات التي حررها وقدم لها الشاعر السوري نوري الجراح، حكى الموصلي عن تفاصيل حيوات الناس في العالم الجديد وعاداتهم وذكر أحوال البلاد التي زارها وحيواناتها وأطعمتها وروى قصصا سمعها بلغة مزجت بين الفصحى والعامية السورية.

وفي مقدمة المذكرات الصادرة عن دار السويدي للنشر والمؤسسة العربية للدراسات ببيروت اعتبر الجراح أن الرحالة العرب والمسلمين يعتبرون من بين أكفأ من جاب جغرافيا العالم، ما جعلهم في طليعة من كتبوا “أدب الرحلة”، مستشهدا بالرحالة العرب الأوائل مثل أبي دلف الينبوعي وابن بطوطة وابن جبير وابن فضلان وناصر خسرو وغيرهم، وصولاً إلى عبد اللطيف البغدادي والشيخ عبد الغني النابلسي وأحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي وكذلك محمد لبيب البتنوني ومحمد كرد علي وأمين الريحاني والأمير محمد علي وغيرهم الكثير.

طاف الرحالة العرب أقاليم العالم القريبة منهم والبعيدة واستكشفوا الأمكنة وكتبوا عنها وعن شعوبها وعاداتهم وتقاليدهم، وشمل أدب الرحلة العربي أعمال السياح والجغرافيين والمفكرين الباحثين عن المعرفة ورحلات المتصوفة والحجاج وأنشطة الدبلوماسية والجاسوسية وغيرها، بحسب الشاعر السوري المقيم في لندن الذي قدم رحلة الموصلي.

ربع قرن من الترحال
دامت رحلة الموصلي 26 عاما بين سني 1668 و1683، وكانت في بدايات الاستيطان الأوروبي للعالم الجديد، وفي حمى بناء المستوطنات والبحث عن الذهب والفضة، وانتشار العبودية، وممارسات “ديوان التفتيش” الكاثوليكي وعمليات التبشير القسري والإبادة التي مارسها المستعمرون الإسبان تجاه أبناء القارة اللاتينية.

وقام الجراح بتحقيق نص الموصلي ورحلته وأضاف عليه معلومات عثر عليها من كتاب “تاريخ الأدب الجغرافي العربي” للمستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي.

وكان الأب ربّاط اليسوعي قد عثر على مخطوط الرحلة في مطرانية السريان في حلب، ونشرها في أواسط مايو/أيار من سنة 1905 في مجلة “المشرق” وكتب عنها “بينما كنا نطالع المخطوطات المحفوظة في مطرانية السريان بحلب استلفت نظرنا كتاب عربي عنوانه سياحة الخوري إلياس الموصلي، فاختلسنا أوقات الفراغ لقراءته وأخذنا العجب لمّا رأينا كاهنا شرقيا زار أكثر الأنحاء الأميركية في القسم الثاني من القرن السابع عشر ووصفها وصفا لا يخلو من اللذة…”.

ووصف الموصلي في رحلته إلى إيطاليا الفترة التي قضاها في الحجر الصحي لمدة زادت على الأربعين يوما للاطمئنان لعدم حملهم لمرض الطاعون، قبل أن يسمح لهم بدخول المدينة.
اعلان

رحلة عبر العالم
وفي طريقه إلى أميركا مرّ الموصلي بجزر الكناري الإسبانية، وصولاً إلى العاصمة الفنزويلية كراكاس، فجزيرة مرغريتا، وكرتاخينا، وبورتوبيلو في فنزويلا، ثم إلى بنما مرورا بمئات المدن والقرى والجزر، وتجول في البيرو وغواتيمالا، وكولومبيا وتشيلي وبوليفيا، ووصل إلى مناطق خط الاستواء، وزار مناجم الفضة والذهب والزئبق في المستعمرات، وفي طريق عودته إلى أوروبا بعد سياحة دامت ثماني سنوات متصلة، زار المكسيك التي يسميها في رحلته (بلاد ينكي دنيا) وأميركا الوسطى وتوقف في جزيرة كوبا.

وقال محقق الرحلة إن الموصلي كتبها في منزل جميل في عاصمة البيرو بلغة ركيكة، واستكمل الجراح بدوره تصويب بعض الأخطاء اللغوية وشرح بعض الكلمات القديمة وقسمها لأربعة أجزاء ليسهل على القارئ قراءتها حسب مراحلها الجغرافية، وهي: الرحلة الأوروبية من بغداد إلى لشبونة، والرحلة الأميركية من مدريد إلى كراكاس، والرحلة المكسيكية من تابوكا إلى مكسيكو، ورحلة العودة من مكسيكو إلى روما.

ويقول الجراح إن الرحلة تحفل بالأخبار والقصص الواقعية والعجيبة أيضا، وتكشف عن التقاطات ذكية، وبها شيء غير قليل من الموضوعية على الرغم من أن كاتبها كان يتحرك في دائرة “ديوان التفتيش” لكنه ربما بسبب أصوله الشرقية أو لنزاع بين وعيه الكنسي وضميره الإنساني، لم يكن راضيا تماما عما أنزله الديوان بالسكان الأصليين من ألوان العقاب الجماعي وما ارتكبه بحقهم من جرائم كشفت التحالف غير المقدس بين الاستغلالين الاقتصادي والديني اللذين خضع لهما سكان القارة، بحسب تعبير نوري الجراح.

هدف غامض
ويروي الموصلي في مقدمة رحلته كيف اعتنق سكان أميركا اللاتينية المسيحية عبر المبشرين الإسبان، ووصف العمران والبناء والعادات، والطبخ عند السكان الأصليين، وأحوال التجارة والبضائع والأسعار، وتجارة العبيد، وعادات الزواج ودفن الموتى، ومناخ هذه البلدان.

ويسمي الموصلي أميركا اللاتينية ببلاد الهند الغربية تمييزا لها عن “الهند الشرقية” في آسيا، وحصل قبل رحلته على موافقة من ملك البرتغال ورسالة توصية من ملكة إسبانيا إلى المطارنة والأساقفة والحكام في كل بلاد “الهند الغربية”.

وفي واحدة من قصصه بالمدن، يروي الموصلي تقاليد السكان الأصليين ودفع الفتاة ما يشبه المهر لزوجها، وتناول أكل لحوم البشر عند الهنود، وأعمال سك العملة وقيمتها، وبدا واضحا في إحدى عبارات الرحلة أن الموصلي كان في مهمة تبشيرية إذ تحدث عن واجبه في إرجاع الطوائف إلى “إيمان الكنيسة الحقيقي”.
اعلان

ومع ذلك لم يجزم محقق النص بذلك، وكتب في المقدمة متسائلاً عما إذا كانت وراء هذه الرحلة مهمة رسمية أو كنسية أو سياسية لم يفصح عنها الرحّالة، أم أنها كانت مجرد مغامرة شخصية.

وإذا كانت الرحلة هي تكليف كنسي من البابا أو من “محاكم التفتيش” فما طبيعة هذا التكليف “ولماذا اختير الموصلي ابن الكنيسة الشرقية لهذه المهمة، وليس أي شخص آخر روماني أو أوروبي مثلاً؟”، يتساءل الجراح الذي يعتبر أن ما تمتع به الموصلي من كفاءة وخبرة فضلاً عن علاقات أسرته بالفاتيكان، قد يكون له دور في اختياره لمهمة لم يفصح عنها بصراحة في مذكراته.