كورونا وما بعد الإسلاموية

آخر تحديث 2020-05-30 00:00:00 - المصدر: الحرة

لم تعد جائحة كورونا (كوفيد-19) مجرد فيروس يهدد حياتنا ويختبر الأنظمة الصحيّة في دول العالم، وإنما بات فرصة لإعادة تقييم النظريات والأفكار التي تحكم عالمنا. ويختصر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس الموضوع بقوله: "إن هذا الوباء يفرض على الجميع تحديا فكريا".

السجالات الآن تبحث تقييم الطروحات الفكرية التي كنا نعتقد بأننا قد تجاوزنا النقاش بشأنها مع نهاية القرن الماضي. وتحاول الصحافة استطلاع آراء كبار الفلاسفة والمفكرين بشأن مستقبل العالم والأفكار التي تحكمه، إذ نشرت مجلة الدوحة القطرية حوارات مع ثلاثة أهم مفكرين معاصرين، هم كل من فرنسيس فوكوياما، وألان تورين، وإدغار موران. فيما اهتمَّ مدونون في صفحات التواصل الاجتماعي بطروحات هابرماس، ونعوم تشومسكي، وسلافوي جيجيك، وقد نشر آرائهم وطروحاتهم الكاتب والصحفي العراقي علي حسين في صفحته على فيسبوك.

جميع الآراء والنقاشات تدور حول مستقبل الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية والعولمة والفاعلين في النظام العالمي، ويبدو أن المفكرين العرب غير معنيين بهذه النقاشات، فهم منشغلون بتركيب وتفسير نظريات المؤامرة. وبدلا من التفكير بمستقبلهم فضَّلوا الرجوع إلى ما يُجِدونه فعليا، ألا وهو الترويج للنموذج النظام السلطوي والشمولي في تعاملهِ مع جائحة كورونا، والشماتة بالأنظمة الديمقراطية واعتبار الجائحة عقوبة ربانية.

الأولوية يجب أن تكون لقضايا العدالة الاجتماعية، وليس للشعارات والأيديولوجيا. وهنا تحديدا ستكون نقطة الافتراق عن حركات الإسلام السياسي التقليدية

وبما أن المنطقة العربية لا تريد مغادرة السجال بشأن مستقل الإسلام السياسي، فيبدو أن استحضار أطروحة ما بعد الإسلاموية، التي طُرحَت للنقاش بعد أحداث "الربيع العربي"، ربما هي الوحيدة التي تستحق التفكير بها، والعودة إلى مناقشة مستقبلها في العالم العربي بعد الانتهاء من وباء كورونا، الذي ستكون نتيجة الحرب معه لصالح التطور العلمي.

يعد أهم من طرح مفهوم "ما بعد الإسلاموية" الباحث الفرنسي أولفييه روا، والباحث الأميركي ذو الأصول الإيرانية آصف بيات. وحاول الأخير تأصيل هذا المفهوم بيان أسسه وركائزه. وتشير ما بعد الإسلاموية عند بيات إلى عملية مركّبة تسعى للانقطاع عن الحزمة الأيديولوجية الإسلاموية التي تختزل المشروع السياسي الإسلامي في إقامة دولة دينية تطبق حكم الشريعة، فهي تدعو إلى قطيعة خطابية أو ذرائعية من هذا النموذج الإسلاموي. وتطرح بديلا عنه يتبنى الالتزام بمشروع ديني مغاير وأكثر استيعابا يستمر فيه الإسلام كدين وكمكوّن للمجال العام.

تؤكّد "ما بعد الإسلاموية" على دمج التدين بالحقوق، والإيمان والحريّة، والإسلام والتحرر. إنها محاولة لتجاوز الإسلامية من خلال بناء مجتمع تقي صالح في إطار دولة مدنية غير دينية. وحسب بيات، فإن أبرز تمثلاتها هو القدرة على "صهر الدين بالحريات الشخصية، وتحقيق التوافق بين الإسلام والحداثة وقيم الديمقراطية".

وتُعبّر "ما بعد الإسلاموية" عن الحالة السياسية والاجتماعية التي أعقبت مرحلة التجريب واستنزفت فيها جاذبية وطاقة ومصادر شرعية الإسلاموية، حتى بين من كانوا مؤيديها المتحمسين، مشروعا واعيا لتأطير مفاهيم، ولوضع استراتيجية لبناء منطق ونماذج، متجاوزة المجالات التي أخفقت فيها الإسلاموية فكريا وسياسيا واجتماعيا.

"ما بعد الإسلاموية" هي محاولة لتجاوز الإسلامية من خلال بناء مجتمع تقي صالح في إطار دولة مدنية غير دينية

وبهذا المعنى فهي ـ أي ما بعد الإسلاموية ـ ليست علمانية أو معادية للإسلام أو غير إسلامية. وإنما تمثل سعيا نحو دمج التدين بالحقوق، والإيمان بالحرية، والإسلام بالتحرر. "إنها محاولة لقلب المبادئ المؤسّسة للإسلامويّة رأسا على عقب من خلال التأكيد على الحقوق بدلا من الواجبات، ووضع التعدُّدية محل سلطوية الصوت الواحد، والتاريخية بدلا عن النصوص، والمستقبل بدلا عن التاريخ".

ويمكن اختزال أطروحة ما بعد الإسلاموية بتجاوز مواقف وطروحات الإسلام السياسي التي تتعارض مع منطق الدولة الحديثة، وترفض التصالح مع واقعها المعاصر. وكذلك تجاوز التعاطي الانتقائي مع الديمقراطية واعتبارها أداة للوصول إلى سدة الحكم والبقاء فيه. والأهم من ذلك، مغادرة طروحات التيار الإسلاموي الإحيائي المنشغل بأزمة الهوية والدعوة إلى أسلمة الدولة والمجتمع.

إذن، التفكير ومقاربة ما بعد الإسلاموية يجب أن يكون من منظور تصارع نموذجَين في التعامل مع واقع المجتمعات الإسلامية؛ الأول يفكر ويدعو إلى استعادة الخلافة الإسلامية بنموذجها المعاصر الذي قدمه تنظيم "داعش" الإرهابي. أما الثاني فهو يحاول التأسيس والدعوة لنظرة واقعية مع الدولة الحديثة والديمقراطية بمبانيها الفكرية والمؤسساتية.

إذا كان الغرب منشغلا بعالم ما بعد كورونا، ويناقش فلاسفته ومفكريه السياسات الناجعة في مواجهة هذا الوباء والعودة إلى تقييم هيمنة الاقتصاد الرأسمالي، فإننا كعرب لا نزال متأثرين لا فاعلين في نظام العولمة. وأنظمتنا تتعامل بطريقة (الوصاية الأبوية) على مجتمع تفترض بأنه غير مدرك لمصلحته. فإذن علينا الانشغال والتفكير العملي بمستقبل حركات الإسلام السياسي، لأنها إما تحاول أن تفرض نموذجها على المجتمع والدولة، أو تحاول الأنظمة الحاكمة التي تتنافس معها على الحكم تسويقها على أنها خطر يهدد الاستقرار والتنمية!

تؤكّد "ما بعد الإسلاموية" على دمج التدين بالحقوق، والإيمان والحريّة، والإسلام والتحرر

ما بعد الإسلاموية هي تعبير عن الحركات الإسلامية التي تعبّر عن جيل جديد يؤمن بالاعتدال ويتمسك به طريقا لممارسة العمل السياسي. ويعتقد الأولوية يجب أن تكون لقضايا العدالة الاجتماعية، وليس للشعارات والأيديولوجيا. وهنا تحديدا ستكون نقطة الافتراق عن حركات الإسلام السياسي التقليدية. ولعلَّ هذا النقاش والاختبار الحقيقي لأطروحة "ما بعد الإسلامية" قد يتصدّر سجالاتنا الفكرية في مرحلة ما بعد جائحة كورونا.

إذ تشكل أطروحة ما بعد الإسلاموية تمهيدا يحدد الخارطة الفكرية للحركات السياسية الإسلامية في تعاطيها مع مفاهيم الدولة والنظام الديمقراطي، وقد تشكل المحور الرئيس في نقاشات الفكر السياسي الإسلامي من خلال تأسيس نظري يرتكز على حسم إشكاليات التداخل بين المسألة السياسية والدينية، بعيدا عن المباني العقائدية التي باتت تتحول إلى أيديولوجيات جامدة لا تتلاءم مع الواقع. وهنا يقول أولفييه روا "ليست المسألة بمعرفة ما يمكن تعلمه من الماضي، بقدر ما هي معرفة كيف يعاد بناء الإسلام على أيدي المسلمين".

ختاما، الغرب لم يناقش أفكار ونظريات لم يكن لها تطبيق على أرض الواقع، فالفيروسات قد تتشابه مع الأفكار والنظريات السياسية، فكلاهما لا يمكنهما العيش والاستمرار في الفضاء العام إلا من خلال التماهي مع كائن حي، فإذا كان الفيروس طفيليا لا يمكنه العيش إلا باقترانه بجسم حي، كذلك الأفكار لا يمكن تقييمها وبيان معيارية صوابها من خطائها إلا بتفاعلها مع حياة المجتمعات والشعوب.