تقعُ مدينة الموصل العراقية في منتصف طريق القوافل بين بغداد وحلب بالمسافة ذاتها البالغة 500 كيلومتر بين المدينتين، لكنّها أقرب إلى حلب منها إلى بغداد، في توأمة حضارية غير مسبوقة بين المدينتين المنكوبتين اللتين يتوزَّع سكّانهما على الأعراق والأعراف والتقاليد والمعاناة نفسها.
خراب الأمكنة بين الموصل وقرينتها
كلاهما اُحتلّ خلال فترة متقاربة، ودُمِّرت غالبية معالمهما، وتلاشت ذكرياتهما ومنجزات القرون الخوالي، وتحوّلت شواخص المدن التابعة إليهما إلى أنقاض حجارة وأطلال، ليُقصم ظهر المدينتين اللتين استطاعتا الصمود عبر قرون من الحروب وعمليات الحصار والخضوع لغزوات من شتّى الأعداء بالتاريخين القديم والحديث، لكنهما دُمِرا حاليّاً بمنهجية وقصد.
ولاية الموصل سر التشكُّل
الدولة العراقية الحديثة لم تتشكّل مطلع القرن الماضي من دون ارتباطها بولاية الموصل، ثالث ولايات العراق بعد بغداد والبصرة أيام الدولة العثمانية، فقد ظلت موضع تجاذب شديد بين بريطانيا العظمى وفرنسا وريثي الرجل العثماني المريض، حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حين تمكّنت بريطانيا من انتزاع الموصل من العثمانيين عام 1918، رُغم وجود الهدنة.
وعجّل اكتشاف النفط في ولاية الموصل باحتلالها، وتمكّنت بريطانيا من إقناع فرنسا بالتنازل عنها في معاهدة "سيفر 1" 1920، ثم تنازلت تركيا عن ولاية الموصل رسمياً عام 1926 زمن أتاتورك، وهي المؤلَّفة من أربع محافظات عراقية: أربيل والسليمانية وكركوك ودهوك، إثر التوقيع على معاهدة أنقرة مع الحلفاء بعد الحرب الثانية.
الموصليون أسلاف الآشوريين
المعروف عن أهل نينوى والموصل تحديداً، مثل أسلافهم الآشوريين، أنهم شديدو المراس، ويعشقون العسكرية، حتى ذاع بينهم مثلٌ شعبيٌّ تردده النسوة حول العريس الذي يتقدّم لخِطبتهن "لو مُلازم (ضابط) لو مَلازم (ما أريد)"، لذا نرى جلّ ضباط وقادة الجيش العراقي من الموصل، وآخرهم وزير الدفاع في النظام السابق سلطان هاشم. وما حلّ من خراب في نينوى يفوق خراب البصرة بالجنوب، وتسعى بغداد إلى إعادة هاتين المدينتين إلى عهدهما بصعوبة بالغة.
كيف اُحتلت الموصل؟
ليلة الحادي عشر من يوليو (تموز) داهم نحو ألفين من عناصر "داعش" الموصل من جزئها الجنوبي، عازمين على إسقاطها والعبور إلى مناطق تكريت، التي تقع على امتدادها وصولاً إلى سامراء، حيث مرقد العسكريين أحد مزارات الشيعة الأمامية، لكنهم فشلوا بسبب رفض الأهالي التنظيم، وتلقيهم الدعم السريع من بغداد.
وتمكّنت مجموعات "داعش" من السيطرة على الموصل، بسبب قدرة المباغتة والاستيلاء على أسلحة الجيش الذي فقد القيادة والسيطرة والتمركز، وهروب مقاتليه، الذين شعروا أن الحاضنة المدنية كلها تعمل ضدهم، مع ضم "داعش" أعداداً من العناصر باقتحام سجن (بادوش) في الموصل، الذي يضم أكثر من 3400 موقوف وسجين، كذلك توقّع الجيش أن يقوم الطيران بمهاجمة قوات التنظيم التي دخلت المدينة، وجعلت سكّانها دروعاً بشرية. وعدم مقاومتهم الدواعش يرجع ذلك إلى التذمر والنقمة الشعبية التي عاشاها الموصليون جراء رداءة التعامل الحكومي مع الشعب، وعدم أهلية القيادات العسكرية في نينوى على التعامل بحكمة، كما أكد ذلك وزير الدفاع الأسبق خالد العبيدي، وهو من ضباط الجيش الموصليين.
زمن داعش وتساقط المدن
في معادلة التاريخ، الحروب عادة تجلب إلى المدن الدمار والقتل، كما جرى في الموصل، موضع حديثنا، التي سيطر عليها "داعش" وفلوله عام 2014، أربع سنوات عجاف، إذ تقاتل التنظيم مع الوجود الحضاري والمجتمعي كله للموصل ومدن نينوى التسع التي تشكّل حواضرها، وهي: تل عفر، وسنجار، والشيخان، والشرقاط، والحمدانية، وتلكيف، والمويجة، والبعاج وبعشيقة، وهي تشي بتنوّع في السكن والإثنيات والتقاليد المجتمعية بين مدن الجبال والهضاب والسهول، بمؤازرة الدولة العراقية بكل إمكاناتها وخبراتها في الحروب بالاعتماد على الضباط والقادة القدامى من الجيش العراقي المنحل، حين شعرت أنها فقدت ثلث العراق بعد سقوط ثلاث محافظات أخرى، وبات الزحف على العاصمة وشيكاً، فأدركت الدولة أن كل ذلك يهدد وجودها.
عاشت الموصل وحواضرها أسوأ حقبة في تاريخها المعاصر، وهي ترى تكسير تماثيل الحضارة الآشورية، وتدمير متحف نينوى الغنيّ بأهم حقبة من تاريخ البلاد هي الآشورية، بدعاوى ساذجة، ثم عمد "داعش" إلى المتاجرة بالآثار مع عصابات دولية نقلت نفائس حضارة العراق القديم، تقدّر بأكثر من عشرين ألف قطعة مُتحفية، ونقلت خزائن النمرود ومقابرها الذهبية إلى العالم، في سابقة نبش آثار لم يشهدها التاريخ بدأت من تحطيم المُتحف العراقي إلى مدن نينوى، مع بيع الناس في سوق النخاسة في سابقة أيضاً لم يعشها الشعب في تاريخه.
تعددت الأسباب والنتيجة سقوط الموصل
سجالٌ طويلٌ دار حول إشكالية سقوط الموصل لم تظهر وقائعه الحقيقية حتى الآن، اشتركت فيه أطرافٌ محلية معارضة وطائفية وقومية حاكمة وعناصر إقليمية وقوى نافذة وعصابات دولية، فلم يصدر تقرير جديّ حتى الآن عن هذه الواقعة التاريخية التي يُرجح أنها تُسقط عروشاً، وتُحيل أسماء نافذة إلى المحاكمات، وإيقاع أشد العقوبات لتهاونها، لا سيما الطرف الحكومي المسؤول والقوات العراقية المرابطة والمسؤولة عن القاطع، والمؤلَّفة من قوات دجلة المسؤولة عن قاطع عمليات نينوى، والفرقة 12 "جيش"، التي هربت عناصرها، ولجأت إلى كردستان، وسلّمت كل معدّاتها وأسلحتها إلى البيشمركة التي احتلت كركوك في ما بعد.
حرب غير نظامية
خلَّف "داعش" أفدح الضرر في الموصل، بعد أن حوّل سكانها إلى دروع بشرية في أثناء عمليات الجيش العراقي وفصائل متطوّعة تحت مسميات شتّى، بمؤازرة التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وكما أكدت الحكومة العراقية برئاسة حيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، أنها اتخذت كل الإجراءات التي تحول دون دمار المدينة، لتخفيف الأعباء عن سكّانها، وتقليل أعداد الضحايا المدنيين الذين يسوقهم "داعش" إلى حتوفهم، فما أن دخل الجيش المدينة إلا واتضح حجم الخراب، وما فعلته ملايين القذائف التي جعلت الضفة اليسرى من الموصل بانوراما من الخراب، الذي لم تواجهه في تاريخها السحيق، إذ هُدمت مئذنتها الحدباء التاريخية رمز المدينة وعنوانها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما حفرت فصائل داعش أنفاقاً تحت الأرض وفتحت الجدران بين البيوت للتنقل والتخفيّ، وشوّهت المدينة، وحوّلتها إلى خنادق وأنفاق، وفرضت نظاماً صارماً على سكّانها، وأنزلتهم الأنفاق وأجبرتهم على حمل العتاد، ومن يحاول الفرار فمصيره الموت، إذ أُعدِم المئات على يد عناصر "داعش" المتعددي الجنسيات.
الحصاد المر بعد الاحتلال
نتائج وخيمة تعرّض لها الشعب العراقي، وأهل نينوى تحديداً، نتيجة تدمير مدنهم، لا سيما الموصل الحدباء التي يطلق عليها "أم الربيعين" لروعة جوّها واعتداله، ونتيجة محصّلات لما جرى من احتلال ومعارك طالتها، فهي محافظة تمثل العالم القديم المتعدد القوميات والطوائف والأديان، فيها أقدم المساجد والمآذن والكنائس والأديرة التي أضحت في زمن الدواعش ملاجئ المشرّدين والمهجّرين والأقليات التي وجدت نفسها في أتون حرب لا تقوى عليها، وتناقصت أعداد المسيحيين إلى ربع السكان، السريان الذين عاشوا قروناً متحابين مع المسلمين، وهاجر الإيزيديون والشبك.
لم يكن سقوط الموصل بنظر عموم الشعب العراقي إلا مؤامرة كبرى، حين يستعيدون ذكراها السادسة من دون إجابات تشفي غليلهم، فقد تعدى سقوطها ثلاث محافظات أخرى ذات غالبية سنية، هي الأنبار وتكريت وكركوك وأجزاء من ديالى، في استهداف واضح لجغرافية المكونات، فأولى المدن التي اُستهدفت كانت تلعفر والطوز وآمرلي وسواها.
واللافت، أنه لا مقاومة حقيقية لجيش نظامي جرار معه أحدث الأسلحة، إذ لم يتمكّن الجيش ليومين من صد هجوم ألفين من فصائل "داعش"، التي وجدت قيادات عسكرية بلا عقيدة قتالية تتقهقر أمامها، وتترك أسلحتها للمدنيين، الذين وظّفهم التنظيم معه، وبدأت الشرطة الاتحادية الانسحاب الكامل من دون قتال، وتركت مقراتها وثكناتها، مع انهيار كبير للفرقة الثانية في الجيش، وهروب كبار العسكريين وقطع الجسور خلفهم على الساحل الأيمن، حتى سيطر "داعش" في العاشر من يونيو (حزيران) سيطرة كاملة على الموصل، وهرب محافظها، وفُتحت المدينة أمام الغزاة الجدد، وكُسِرت سجونها، واُحتل مبنى المحافظة والمطار الدولي.
وسجّل زعماء الجيش، الذين يقودهم الجنرال مهدي الغراوي، أسرع انهيار في تاريخ القوات النظامية المؤلَّفة من ثلاثة فرق من الجيش وألوية من الشرطة يقدر عددهم بنحو 50 ألف مسلح، وتركوا أسلحة ثقيلة وخفيفة بعشرات المليارات من الدولارات، و400 مليون دولار (كاش) وضع "داعش" يدها عليها في أثناء مداهمة المصارف الحكومية في الموصل، كل ذلك يبعث على الأسئلة المحيرة.
تساؤلات لم تجب عنها الحكومات
الذي يحز في نفس غالبية الشعب العراقي حتى يومنا هذا، أنه لم يجرَ تحقيق منصف وعادل ومهني وشامل حول سقوط الموصل، إنصافاً لعشرات الآلاف من الضحايا والسبايا من النساء، لا سيما الإيزيديات اللاتي باعهنّ "داعش" في سوق النخاسة، وكما تقول نادية مراد، إحدى الإيزيديات اللاتي وقعن في قبضة التنظيم الحائزة جائزة نوبل للسلام، "ما زلت وكثير غيري من مئات الضحايا اللواتي ساقهن السبي الداعشي إلى المجهول، وبعضهن أمهات يحملن أطفالاً، في مأساة لم يُعاقب المتسببون على فعلتهم".
العبادي قائد التحرير وصانع النصر
البارقة الوحيدة التي تُحسب لحقبة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي كونه القائد العام للقوات، إعلانه الجريء في بدء شن معركة تحرير الموصل، رغم تأكيد إدارة الرئيس أوباما وقتها، أن "القضاء على (داعش) يتطلب ثلاثين عاماً"، لكن العمليات التي أطلقها الجيش العراقي بقيادة جهاز مكافحة الإرهاب والفصائل العسكرية والمدنية المقاتلة التي أعلنت في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2016 بدء تحرير الموصل، وبعد عام ونصف العام أعلن رسمياً تحرير المدينة في العاشر من يوليو (تموز) 2017. ليسجّل العراق نصراً نوعياً لجسامة المعركة وتعقيداتها، كونها بين جيش نظامي فقد أكثر من عشرين ألف مقاتل، وميليشيات عازمة على الموت في سبيل عقيدتها القتالية.
احتلت الموصل بلغز وتحررت بلغز أكبر
وانتهت المعركة كما بدأت غامضة. إذ تلاشى قتلى "داعش"، وغابت جثث الآلاف منهم، ممن قدّرتهم الحكومة بأكثر من ثلاثين ألف داعشي اختفوا بين أنقاض الموصل وقصباتها، وظلت المدينة حتى اليوم أشباحاً، يلفها الدمار وخراب بيوت أهلها وهجرة سكّانها الأصليين، وما زال شبح "داعش" يؤرّق سكانها العائدين إلى بقايا مدينة، يدفعهم الحنين إلى المكان، الذين عاهدهم رئيس الوزراء الكاظمي في أول زيارة له للموصل أن سقوط المدينة "لن يتكرر".
وطالب القادة الأمنيين بـ"أن لا يتكرر ما حدث عام 2014"، مفسّراً ما جرى بأن "سوء الإدارة والفساد كانا وراء حدوث تلك الكوارث السابقة"، مؤكداً أن تحرير الموصل "شارك فيه كل أبناء العراق، واختلطت فيه الدماء"، وشدد على "ضرورة دعم الأمن وملاحقة خلايا الإرهاب"، مشيراً إلى "مواجهة تحديات كبيرة، وأننا قادرون على تجاوزها".