على خلاف التوقعات التي سبقت إعلان الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق، التي رجّحت أن يكون اللقاء مكرّساً لفرض مطالبات عراقية لسحب القوات الأميركية وإبطال قواعدها، توافقاً مع قرار البرلمان وبضغط إيراني متوقّع، أكدت المناقشات تثبيت وجود تلك القوات، وإلزام العراق حمايتها، مع مرونة أميركية تتعلق بخفض تلك القوات التي تقدّر بستة آلاف عسكري أميركي، يتوزّعون على ثلاث قواعد رئيسة، أبرزها عين الأسد بمحافظة الأنبار.
وجرى الحوار عبر دائرة اجتماعات الفيديو المغلقة، وقاده من الجانب الأميركي وكيل وزارة الخارجية الأميركية الخاص ديفيد هيل، يناظره الوكيل الأقدم لوزارة الخارجية العراقية عبد الكريم هاشم مصطفى، واكتسب الجانب الأمني أهمية في اللقاء، حسب البيان الرسمي، ليُجرى استعراض جوانب تعزيز "اتفاقية الإطار الاستراتيجي" المُبرمة بين البلدين عام 2008، وعلاقة الصداقة والتعاون بين العراق والولايات المتحدة.
تقليص لا انسحاب
وأقرّ الطرفان مبدأ الشراكة الأمنية بين البلدين في ضوء التقدّم المتميز بشأن التخلص من تهديد تنظيم داعش، الذي احتل أجزاءً كبيرة من العراق عام 2014، واتفقا أيضاً على تقليص الولايات المتحدة الأميركية خلال الأشهر المقبلة عدد القوات الموجودة بالعراق، وإجراء حوار مع الحكومة العراقية حول وضع القوات المتبقية، إذ يتجه تركيز البلدين صوب تطوير علاقة أمنية طبيعية تقوم على المصالح المشتركة.
وفَهِم البعض أن الولايات المتحدة تعتزم الانسحاب من العراق، وهذا يخالف الحقيقة، بعد أن عززت مكانتها في القواعد الكبيرة، مثل عين الأسد بالأنبار، التي تعدُّ واحدة من أهم القواعد العسكرية الأميركية بالشرق الأوسط، ودعّمتها قبل أشهر قليلة بمنظومة صواريخ الباتريوت بعد قصفها من قِبل إيران، إثر مقتل الجنرال قاسم سليماني مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي.
ويوجد فرقٌ كبيرٌ بين التقليص والانسحاب، كما يؤكد ذلك منقذ داغر، رئيس المجموعة المستقلة للبحوث، الذي قال لـ"اندبندنت عربية"، "توجد قراءة خاطئة لبعض الذين يسعون لتضليل جمهورهم باحتساب أن التقليص بمثابة خطوة للانسحاب المحتمل. هذا غير دقيق على الإطلاق".
5 محاور أطّرت الحوار
وتوزّعت محاور الحوار والمباحثات على خمسة محاور رئيسة في مجالات مكافحة الإرهاب، والاقتصاد، والطاقة، والقضايا السياسية، والعلاقات الثقافية، مؤكدة مرجعية الإطار الاستراتيجي المُتفق عليه سابقاً، لا سيما تبني أميركي لحاجة العراق إلى إصلاحات اقتصادية جوهرية، بعد أزمتي كورونا وانخفاض أسعار النفط.
وبحثت الولايات المتحدة تزويد العراق بالمستشارين الاقتصاديين من أجل مساعدته على تخطي هذه الأزمة، وناقشت الحكومتان مشروعات الاستثمار المُحتملة التي تنخرط فيها الشركات الأميركية بقطاع الطاقة، شرط توافر الظروف المواتية، من دون تحديد تلك الشروط.
دعم الكاظمي
واكتسب الحوار السياسي دعماً مميزاً للعراق وإدارته الحالية، برئاسة مصطفى الكاظمي، من جانب الولايات المتحدة، إذ أعربت عن وقوفها مع العراق ليس من خلال التعاون الثنائي الوثيق على المستويين الأمني والسياسي فقط، لكن من خلال دعمها العراق وحكومته الجديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجددت واشنطن تأكيدها أهمية مساعدة بغداد في تطبيق برنامجها الحكومي والإصلاحي بالشكل الذي يلبي طموحات الشعب العراقي. وكذلك تقديم الدعم للتحضير للانتخابات المقبلة المُزمع عقدها منتصف العام المقبل، والإسهام في إعادة النازحين العراقيين وتسهيل اندماجهم، لا سيما الأقليات التي تعرّضت للإبادة على يد تنظيم داعش.
وفي الإطار الأمني، أكدت مخرجات الحوار أن الولايات المتحدة الأميركية لا تسعى إلى إقامة قواعد دائمة أو وجود عسكري دائم بالعراق، كما اُتفق عليه مسبقاً في اتفاقية الإطار الاستراتيجي عام 2008، التي تنصّ على أن التعاون الأمني "يُجرى على أساس الاتفاقات المتبادلة".
ومن جهتها، التزمت الحكومة العراقية "حماية القوات العسكرية للتحالف الدولي والمرافق العراقية التي تستضيفهم"، وهذه الفقرة في غاية الأهمية، خصوصاً بعد تواصل الهجمات على السفارة والقواعد الأميركية بصواريخ تطلقها ميليشيات مساندة إيران، وتمتثل إلى أوامرها، ولديها قواعد ومقرات في بغداد ومدن أخرى.
الولايات المتحدة تعيد إلى العراق ذاكرته
الجانب الأخير اللافت في الحوار ومخرجاته يكمن في البعد الثقافي، بإعادة الأرشيف السياسي المهم إلى الحكومة العراقية، الذي وضعت الولايات المتحدة يدها عليه منذ العام الأول للاحتلال خلال 2003. ومن بين ذلك إعادة القطع المُتحفية المنهوبة من العراق، وأرشيف حزب البعث الذي جرى الاستيلاء عليه من مقرات الحزب الحاكم قبل الاحتلال.
وأبقى الطرفان الباب مفتوحاً لجولة أخرى من الحوار في يوليو (تموز)، وتتطلع الحكومتان إلى مباحثات معمّقة في اجتماع لجنة التنسيق العالي للحوار الاستراتيجي في واشنطن المزمع عقده يوليو المقبل.