عندما تقرأ مذكرات الطبيبة العراقية سانحة أمين زكي تتلّمس علاقة الألفة بين الطبيب والمريض، إذ دوّنت الطبيبة ذكرياتها خلال الأربعينيات عندما كانت تعمل في المستشفى الملكي ببغداد.
وتروي قصة جيلها من الأطباء، في وقت كانت المؤسسات الصحية تُذلل كل العقبات أمام طموحهم، فشهدت اتساع ردهات المستشفيات في مختلف التخصصات لتسع أحلام الأطباء وهم يقدّمون الخدمات الطبية لمرضاهم.
مذكرات الطبيبة العراقية وما ضمنتها من مشاهدات أشبه بعالم خيالي، إذا ما قورنت بعالم الألفية الذي نعيشه الآن، فهي تخلو من قصص الاعتداء على الأطباء كالتي نراها اليوم، ولا تتحدث عن قيام ذوي المريض بتكسير زجاج مستشفى أو أجهزة طبية. تدرك وأنت تقرأ هذه المذكرات أن السنوات التي تعاقبت على العراق أصابته بالتدهور والتراجع.
تصاعدت الاعتداءات الجسدية واللفظية على الكادر الطبي، فأصبح من الطبيعي رؤية طبيبة تتعرض للاعتداء بالسكاكين وهي تقوم بعملها، وطبيب آخر يُهدد عشائرياً إذا ما قدّم شكوى ضد من اعتدى عليه.
وتصاعدت حدة الاعتداءات مع تفشي جائحة كورونا التي أثقلت مستشفيات تعاني أصلاً من نقص المستلزمات العلاجية.
موجات منظمة للاعتداء على الأطباء
تعرض الأطباء العراقيون بعد انهيار الدولة عام 2003 لموجة اعتداءات تمثلت في القتل والخطف والتهديد العشائري والاعتداءات الجسدية واللفظية.
ويوضح نقيب الأطباء العراقيين الدكتور عبدالأمير الشمري أن "الإحصاءات الرسمية سجلت اغتيال 363 طبيباً بعد عام 2003". وأضاف في تصريحه إلى "اندبندنت عربية" أن "الاعتداءات التي تنامت في السنوات الأخيرة يعود سببها إلى تردي الخدمات الطبيبة ونقص الأدوية وضعف البنى التحتية، كما أن الدولة لم تراع الزيادة الحاصلة في عدد السكان، فأصبحت المؤسسات الصحية الموجودة لا تستوعب أعداد المرضى، ما أدى لاكتظاظها، وبالتالي أصبح الاعتداء على الأطباء ظاهرة يومية".
أطباء يتحدثون عن أسباب الاعتداءات
تفاقمت ظاهرة الفساد في المؤسسات الصحية وانعكست بشكل كبير على نوعية الخدمات المقدمة للمرضى. ويقول الدكتور وسام عكاب لـ "اندبندنت عربية" إنه "غالباً ما يتم الاعتداء على الطبيب بسبب نقص الخدمات الطبية التي هي بالأساس خارج إرادته، فيظن المواطن أن التقصير سببه الطبيب لا المؤسسة التي أرهقها الفساد".
أما الدكتور عقبة الزبيدي فيقول إن "سبب الاعتداء على الأطباء ضعف القانون وغياب هيبة الدولة، وشيوع مفهوم اللادولة، فهناك جهات أقوى من الدولة بإمكانها الدفاع عن المعتدي".
الكوادر الطبية الأخرى ليست أفضل حالاً
من جهة أخرى، ترى الممرضة الجامعية بلقيس الزاملي أن "الاعتداءات المتكررة من ذوي المرضى تؤثر سلباً في تقديم الخدمات العلاجية". وتوضح أن "حالات الاعتداء تنامت مع تفشي جائحة كورونا وازدياد حالات الإصابة، والحاجة الملحة إلى الأوكسجين والأجهزة الطبية الأخرى، فأصبح الاعتداء روتيناً يومياً". وتكمل الزاملي "نعمل أيام العطل والأعياد من دون الحصول على أبسط حقوقنا، ومن ضمنها تشريع قانون لنقابة التمريض. وبرغم كل ما نواجه علينا التحلي بالصبر من أجل سلامة المريض، وسير العمل بشكل منتظم".
أما تقني التخدير وليد كاظم فيقول "لم نتخيل أن يكون التعامل معنا مبنياً على أساس الانتقام". ويسرد كاظم قصصاً عن اعتداءات يشهدها باستمرار. ويروي أن "مريضاً كان يعاني موتاً سريرياً رقد ما يقارب 72 يوماً في العناية المركزة، وعندما أعلنت الوفاة قام أهل المريض بتكسير زجاج الردهة، والاعتداء على كل المنتسبين حتى الذين لا يعملون في العناية المركزة". ويوضح كاظم أن "غياب قانون يحمي الكوادر الطبيبة يفاقم هذه الحالات، فلا بد أن يضمّن القانون الحق العام وليس الشخصي فقط، كي لا تُغلق القضية في حال تنازل صاحب الدعوة بسبب التهديدات".
إجراءات الحد من الاعتداءات
في سياق متصل، أكد نقيب الأطباء أن "النقابة تحاول باستمرار تسليط الضوء على ظاهرة الاعتداء على الأطباء وبيان خطورتها، كما تتواصل النقابة مع وزارة الداخلية من أجل القيام بدورها في توفير الأمن داخل المؤسسات الصحية، وملاحقة المعتدين وتسليمهم للقضاء". وأضاف "كما تسعى إلى توكيل محامين لمتابعة قضايا الاعتداء على الأطباء في المحاكم، والمطالبة بالحق العام لأن أطباء كثر يتعرضون للتهديدات العشائرية، ويجبرون على التنازل عن الحق الشخصي".
وأوضح الشمري أن "النقابة تطالب بتطبيق قانون حماية الأطباء رقم 26 لعام 2013، وتحديداً المواد 7 و8 و9 منه، والملزمة للجهات الحكومية بتوفير الحماية للمؤسسات الصحية، واتخاذ إجراءات حازمة بحق المعتدين الذين يهددون الأطباء عشائرياً، التي تصل للسجن 3 سنوات، أو دفع غرامة مالية قدرها 10 ملايين دينار عراقي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تغيير الاختصاص لتفادي الاعتداءات
وأثّرت الاعتداءات المتكررة في جودة الخدمات المقدمة من المستشفيات، وخلقت بيئة غير سليمة للعمل. وأوضح نقيب الأطباء عبدالأمير الشمري أن "الطبيب أصبح يتجنب معالجة الحالات الصعبة التي تحمل خطورة عالية من ناحية المضاعفات أو الوفاة، كما أن قسماً من الأطباء ترك الفروع الجراحية واتجه نحو فروع الطب ذات المشكلات القليلة مثل أمراض الجلدية والأشعة".
وقالت الدكتورة آية الكواز إن "الاعتداءات المتكررة ستجعل بعض الأطباء يتجه إلى العمل في شركات الأدوية لتفادي ظاهرة الاعتداء أثناء العمل في المستشفيات". وأضافت أنها وخلال البحث الميداني الذي أجرته حول تأثير ظاهرة العنف على توجهات طلبة كلية الطب، خلصت إلى أن 66 في المئة من طلبة الكلية نادمون على اختيار الطب كمهنة لهم بسبب الاعتداءات".
الهجرة هاجس الأطباء
ومع تنامي ظاهرة الاعتداءات وعدم قدرة الكوادر الطبية على العمل في أجواء ملائمة، حدثتنا الكواز عن تجربتها، فقالت إنها غالباً ما تتعرض إلى اعتداءات لفظية يتدخل فيها أمن المستشفى لتهدئة الطرف المعتدي. ولفتت إلى أن غالبية العاملين في القطاع الصحي يفكرون بالهجرة إلى دول تضمن حقوق الطبيب والمريض على حد سواء، كما يسعى الأطباء إلى الهجرة بدافع وجود إمكانات طبية تجعل العمل أكثر كفاءة.
أما اختصاصي أمراض القلب والأوعية الدموية الدكتور عقبة الزبيدي فقال إنه لو أُتيحت له فرصة الهجرة فلن يتردد، "والواقع الصحي الحالي يفرض علينا ألا نواكب التطور العلمي، فأنا أعيش في مدينة الموصل التي يصل تعدادها إلى 4 ملايين نسمة، لكنها تخلو من مركز متخصص لجراحة القلب، ويقتصر عملنا على الحالات البسيطة، فلا توجد صالة مناسبة لإجراء عمليات دقيقة".
حجب وثائق الخريجين للحدّ من الهجرة
في المقابل، رأى الشمري أن "استمرار العمل في البيئة الحالية ينذر بعواقب أكثر صعوبة خلال السنوات المقبلة إن استمرت الأوضاع والاعتداءات"، مضيفاً أن "عدد الأطباء العراقيين المهاجرين بلغ أكثر من 20 ألفاً، توزعوا في دول عدة، أبرزها بريطانيا والولايات المتحدة والسويد والإمارات والدنمارك والأردن وتركيا وقطر".
وتابع الشمري "الحكومة خلال السنوات الأخيرة عمدت إلى حجب وثائق الأطباء الخريجين كوسيلة للحد من هجرتهم، بعد النقص الملاحظ في عددهم، إذ تبلغ نسبة الأطباء في العراق 0,8 طبيب لكل 1000 مواطن".
عين على التعيين وأخرى على الهجرة
هبة صفاء المتخرجة حديثاً والتي تنتظر التعيين في إحدى المستشفيات، لا تخفي خوفها من تعرضها لاعتداء كالذي يحصل مع زملائها حالياً. وقالت "أنا دائمة التفكير في هذا الموضوع، وأتساءل كيف يمكنني الدفاع عن نفسي إذا تعرضت لمثل هذه الاعتداءات". وأضافت أن حلمها هو العمل في المستشفيات، وتقديم الخدمات للمرضى بعد سنوات من الدراسة والتدريب، لكنها لا تخفي أيضاً رغبتها الهجرة في حال السماح لها بالحصول على الوثائق، إذ إن "ظروف العمل في الخارج أفضل، وفي العراق لا يمككنا تطوير المعلومات الطبية وسط تدهور المؤسسات الصحية".
ظروف صعبة تعيشها الكوادر الطبية العراقية وهي تجابه جائحة كورونا، إذ بلغ عدد الإصابات بين الأطباء أكثر من 1300، توفي 36 منهم، فضلاً عن الحالات الحرجة. الوباء ونقص الخدمات من جهة والتهديدات العشائرية والاعتداءات من جهة أخرى، في مجموعها عوامل تتربص بالعاملين في الحقل الطبي، وتعوقهم عن العمل بشكل سليم، جاعلة من الهجرة الوسيلة الوحيدة للتخلص من الحرب التي يخوضونها يومياً.