اصلاح التعليم العالي: افاق سوق العمل

آخر تحديث 2020-09-23 00:00:00 - المصدر: المعلومة

كتب / ا.د. محمد الربيعي…

ترتبط التحديات الرئيسية التي يواجها العراق في التعليم العالي بعضها مع البعض وتتشابك، لكونها تؤثر على، وتتأثر بكل مجالات العمل الجامعي. فمن الواضح انه لابد للمواءمة مع سوق العمل الضعيف والمتغاير في احتياجاته أن يتم إعادة هيكلة البرامج الدراسية ومحتوياتها، وإعادة النظر في عملية ضمان الجودة من خلال تغيير طرق التدريس المعتمدة على التلقين والحفظ، وتنمية المهارات الملموسة وغير الملموسة، ويمكن للاستقلالية والمسائلة والشفافية ان تؤثر على معظم مجالات العمل الجامعي. وتشترك في كونها تمثل التحديات الأكبر التي تواجه التعليم العالي والجامعات العراقية.

لقد أصبح تحقيق الجودة بما يتناسب وحاجة السوق مهمة صعبة للجامعات، فمن دون توفر تدريسيين على مستوى عال من التدريب والمعرفة، وتوفير مرافق جامعية ملائمة، وبيئة جامعية محفزة للتعلم والتعليم، وسياسات تنموية تتناول الاحتياجات القطاعية بالتفصيل واحتياجات القطاع العام والخاص لن تتمكن الجامعات من تأدية واجباتها بصورة كاملة. وينبغي أيضا أن تهدف البرامج التدريبية للتدريسيين إلى تعزيز الصلة بين الممارسة النظرية والمشاركة في المعارف والخبرات بين أعضاء هيئة التدريس المتمرسين والمستجدين. ويساعد التقييم الفعال لتدريب التدريسيين ودعمهم، وخاصة من حيث نتائج الطلبة، على تحسين جودة التعليم والتعلم في الجامعات.

متطلبات سوق العمل

بتركيز شديد، يحتاج التعليم العالي في العراق الى استراتيجية تعتمد على تلبية حاجة السوق بالرغم من ضعفه، وليس لمجرد تلبية الرغبات الاجتماعية والسياسية. وتعتبر هذه المواءمة مع سوق العمل من اهم العوامل لمجابهة البطالة وتحقيق اهداف الجامعة. ويعود الضعف إلى سببين: أولهما انخفاض الكفاءة النوعية للجامعات كتـدني التأهيل المعرفي والتخصصي، وضـعف القـدرات الابتكاريـة والتطبيقية والتحليلية، وثانيهما هو أعـداد المخرجات الهائلة في تخصصات لا يحتاجها المجتمع ولا سوق العمل مـع وجـود طلـب كبير فـي تخصصات أخرى، وكذلك الزيادة الهائلة في مخرجات الدراسات العليا التي لا يوجد لمعظمها سوق عمل ولا حاجة مجتمعية ولا أهمية معرفية او بحثية او ابتكارية.

أهمية المهارات

تعد المهارات من العوامل الرئيسية لتحديد درجة مشاركة القوى العاملة وإنتاجية العمل. من المعروف أنه نظراً لتأثير التقنيات الحديثة – والتي غالباً ما تكون مرتبطة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات – والتغييرات في تنظيم العمل، فإن الوظائف التي تنطوي على مهام روتينية والتي يسهل أتممتها تختفي بسرعة، بينما يتضمن خلق فرص عمل جديدة مهاماً تتطلب مهارات غير روتينية (على سبيل المثال، مهارات تحليلية، وإبداعية، واتصالية)، والتي لا يزال البشر أفضل فيها من الآلات. يحتاج خريجونا الى اكتساب مهارات جديدة من خلال المقررات نفسها وليس من خارجها، أي الى المهارات التي يبحث عنها المسؤول الإداري، او مدير المستشفى، او مدير المشروع، او صاحب العمل من تفكير نقدي وبرمجة حاسوب، وحل المشكلات، وقيادة وتنظيم ومرونة وتوثيق وتواصل واخلاق مهنية.

لا يزال التعليم في العراق غالباً ما يتميز بالتعلم عن ظهر القلب، والتكرار (أي التلقين والحفظ)، بدلاً من تدريس المنطق والتحليل والتركيز على مهارات حل المشكلات، وقضايا العالم الحقيقي. ينطبق هذا بالتأكيد على التعليم الابتدائي والثانوي، وبالتأكيد على التعليم العالي. وبالتالي، أصبح عدم توفر المهارات عائقا شديدا أمام النمو والتطور وقد برزت هذه المشكلة بصورة جلية في كل مجالات الاختصاص والعمل حتى السياسي منها.

والسؤال المطروح علينا اليوم هو كيف يمكن لنظام التعليم العالي أن يستجيب لهذه التحديات ويلعب دوراً أقوى في إعداد الشباب لسوق العمل حتى ولو كان هذا السوق ضعيفا وليس له دور مهم في الوقت الحاضر؟

يمكن أن يكون التعليم العالي محركاً قوياً لبناء مجتمع أفضل، من أجل رفع مستوى الإنتاجية والنمو. يساهم من خلال إنتاج المعرفة والمهارات والكفاءات العالية، ومن خلال البحوث الأساسية والتطبيقية ولكن أيضاً من خلال ما يسمى بـ “المهمة الثالثة” وهي خدمة المجتمع. وهنا لكي يكون فعالا يجب على التعليم العالي أن يعمل كنظام مترابط من الجهات الفاعلة حيث تتفاعل المؤسسات مع بعضها البعض، وأصحاب العمل، والوزارات، والشركات، والمؤسسات البحثية وأجهزة التخطيط. كما انه إذا لم تخلق الدولة وظائف جديدة عبر الاستثمار في الصناعة والزراعة والصحة والسياحة والبناء والتعليم، وتستمر في سياسة استيراد كل حاجة صغيرة وكبيرة من دول الجوار فلن يكون للجامعات حاجة الى تدريب مهارات جديدة وإذا لم تنجح هذه الروابط، فمن الصعب على الجامعات أن ترقى إلى مستوى إمكاناتها.

لذلك على الجامعات أن تعد وتعيد تدريب المهنيين لعالم اختفى فيه الطلب على كثير من الاختصاصات والمهارات بشكل منهجي، حيث حل الاستيراد محل الإنتاج المحلي. لكن الطلب على الاختصاصات الطبية، والقوى العاملة الوسطية وموظفي الخدمات لا يزال في ازدياد. وهكذا، إلى جانب التعليم الأولي ووظيفة التدريب على مستوى التعليم العالي، يمكن للجامعات، بل ينبغي لها بالفعل، أن تلعب دوراً مهماً فيما يتعلق بتدريب المهارات وبالتعلم مدى الحياة.

ربط الجامعات بسوق العمل

هناك مجال آخر مهم لربط الجامعات بسوق العمل. يجب أن تستند المناهج الدراسية إلى نتائج (مخارج) التعلم العامة والمهنية أو الفنية – التي يتم تطويرها بشكل مشترك من قبل قطاع التعليم العالي، وأصحاب العمل وأصحاب المصلحة الرئيسيين الآخرين- والمؤسسات اللازمة لدعم الطلاب من خلال المواضع العملية والتدريب الداخلي والتوجيه المهني ومعلومات سوق العمل، ولا يكتفي بان تكون المناهج الدراسية معتمدة تماما على ما هو موجود في الكتب المقررة والجامعات الخارجية. ومن هذا المنطلق يجب ان تكون عملية وضع المناهج ومخارج التعلم مرنة ومتغيرة وعلى الوزارة ان تسحب يدها من مهمة السيطرة على المناهج والامتحانات وارجاعها الى الأقسام والتدريسيين وكما هي عليه في معظم نظم التعليم العالي العالمية.

أود أيضًا أن أذكر ببرامج التجسير في سياق قابلية التوظيف، أي البرامج التي تساعد الطلاب للحصول على بداية أفضل في الجامعة من خلال بناء جسر بين مستوى إعدادهم المدرسي والخبرة الجامعية. يمكن أن تساهم هذه البرامج بشكل كبير في نجاح المتعلم وكذلك في مستقبله الوظيفي. ومن الأمثلة على ذلك برنامج التجسير في إطار مشروع البنك الدولي للتعليم الثانوي في رومانيا، وكذلك برامج التجسير في الجامعات الغربية لبعض الطلبة من الدول النامية.

بشكل عام، يجب أن تكون هناك أنظمة مناسبة للحوكمة والإدارة والتمويل وضمان الجودة من أجل تمكين الجامعات من الوفاء بمهامها المتعلقة بمتطلبات المجتمع وسوق العمل.

الاختصاصات التقليدية

احدى الاختلالات التي يعاني منها نظام التعليم العالي العراقي هو كثرة الاختصاصات التي لا يحتاجها البلد او لا يحتاج الى هذا العدد الهائل من حاملي شهاداتها، وبالرغم من دعواتنا العديدة الى ترشيد التعليم العالي بوضع حد لمهزلة كثرة الاختصاصات التقليدية، وتفاقم البطالة والبطالة المقنعة بين صفوف حملة الشهادات في هذه الاختصاصات، لا زلنا نرى إصرارا على استمرارية وجود اختصاصات اكل عليها الدهر وشرب، وليس لها فائدة تذكر، وتلك التي لم يعد يهتم بها الا القلة القليلة من الجامعات.

انتبهت الى هذه المشكلة جامعات الدول المتقدمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فبدأت ببناء وتطوير برامجها استنادا الى حاجة السوق ودرجة الطلب، وتبعتها في بدايات هذا القرن جامعات عدد من الدول كالهند والصين مما أصبح بناء برنامج جديد او تحجيم او الغاء او دمج برامج أخرى من الأمور الاعتيادية في هذه الجامعات بعد ان كانت البرنامج التقليدية تعتبر سابقا من المقدسات التي لا يمكن لاحد من المساس بها.

من الأمثلة على دمج الجامعات الاوربية دمج جامعتي فكسيو وكلمار في السويد، وجامعة أوسلو والكلية الجامعة اكرشاس في النرويج، ودمج المعهد التربوي والكلية الجامعة لندن في بريطانيا، ودمج جامعة فستوك والاكاديمية المالية في بولندا، ودمج جامعات ستراسبورغ الأولى والثانية والثالثة في جامعة واحدة في فرنسا، ودمج ست جامعات في إيطاليا، ودمج ست مؤسسات للتعليم العالي والبحث العلمي لتكوين الجامعة التكنولوجية الدنماركية، بالإضافة الى دمج عدة جامعات ومعاهد وكليات جامعة في عدد آخر من الدول الاوربية.

في عام 2009، أعلنت جامعة ولاية أريزونا عن إعادة تنظيمها الأكاديمي وشملت أكثر من اثني عشر من مدارسها وكلياتها ومعاهدها. وفي الوقت نفسه، قامت جامعة نورث إيسترن بإعادة هيكلة رئيسية ثالثة في خلال عشرة سنوات حيث قسمت الإدارة كلية الآداب والعلوم إلى ثلاث كليات أصغر وأعادت تصميم كلية العدالة الجنائية كمدرسة داخل كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية التي شكلت حديثا. وبررت التغييرات بأنها أحدثت لمساعدة “تحول الجامعة الى مؤسسة انتقائية أكثر اكاديمية وذات اهمية بحثية عالية”. وفي عام 2010 خفضت جامعة أيوا الشمالية عدد التقسيمات الإدارية من أربعة إلى ثلاثة، مما أدى إلى الغاء منصب نائب الرئيس، وتقليم عدد من الكليات من خلال دمج كلية العلوم الطبيعية وكلية العلوم الإنسانية والفنون الجميلة. ونقل عن رئيس الجامعة قوله ان اعادة الهيكلة تهدف الى تعزيز العروض الاكاديمية وتقليل التكاليف الادارية لتلبية احتياجات الطلبة على أفضل وجه. وبالمثل، كانت استجابة جامعة شرق واشنطن لتخفيضات الميزانية هي إعادة تنظيم وحداتها الأكاديمية، بما في ذلك خفض عدد الكليات من ستة إلى أربع، وإعادة تشكيل عدة أقسام أكاديمية.

ومؤخرا فاجأتنا ماليزيا بمواجهتها لهذه المشكلة بأجراء لوزارة التعليم العالي بألغاء 38 برنامجاً أكاديمياً في 19 جامعة معلنة انها لم تعد ذات صلة بمتطلبات سوق العمل الحالية والمستقبلية، ولأنها لم تعد توفر فرص عمل للخريجين بناءً على طلب الصناعات الحالية. وجاء هذا الاجراء تماشيا مع جهود الحكومة لضمان قدرة خريجي المؤسسات العامة على إيجاد وظائف مناسبة لمجال الدراسة ولتجنب البطالة.

وتضمنت الإجراءات الماليزية عددا من التخصصات لبرنامج البكالوريوس في الرياضيات والكيمياء وعلم النفس الرياضي وريادة الأعمال والتجارة والعلوم الإسلامية والاعلام، بالإضافة الى برامج هندسية كانت الى زمن طويل تعتبر مهمة مما أدى الى اشباع السوق بالخريجين منها الهندسة الميكانيكية والإنتاج الصناعي وهندسة التصنيع وهندسة الاتصالات الكهربائية وهندسة الاتصالات الإلكترونية. وبناء على ذلك تم الايعاز الى جميع الجامعات في البلاد بضرورة إعادة تصميم برامجها الأكاديمية وفقًا للتطورات الصناعية ذات الصلة. وعلى جانب اخر فقد تم الاحتفاظ بتخصصات مثل التاريخ والأدب وتعليم الملايو لأنهم وجدوا ان هذه التخصصات مازالت صالحة لبناء الأمة والمجتمع.

وبالرغم من هذه الظواهر، لم تُوَلّد في العراق عمليات او تجارب جدية وواسعة لإعادة هيكلة مؤسسات التعليم العالي بحيث يمكن ان تسهم في استخلاص الدروس بشأن ما هو واضح من القضايا المشتركة والعالمية. فعلى سبيل المثال لم تقدم أي جامعة على إعادة النظر في هيكلتها الإدارية والأكاديمية ولم تسعى أية جامعة الى دمج الكليات والاقسام المتناظرة ولم يجرؤ أي نظام تعليمي على دمج الجامعات الصغيرة وتلك التي تقع في نفس المجال الجغرافي.

التعليم المهني والتقني

التعليم التقني والمهني يجب ان يأخذ الصدارة في الاهتمام بأنواع التعليم وأولوية على التعليم الأكاديمي العلمي والأدبي، وهذا يتطلب تغيير تقاليد التعليم العالي وهذا يعني احداث تغير جذري في نظرتنا الى اهميته وجدواه والى اعادة صياغة اولوياته. بما ان سوق العمل يحتاج الى الاختصاصات المهنية والتقنية لذلك فانه يتوجب على التعليم العالي تلبية احتياجات هذا النوع من التعليم وتوفير الفرص التدريبية لسد الفجوة الناشئة عن تراكم عجز الايدي العاملة لتلبية الطلب من قبل مختلف النشاطات الاقتصادية الوطنية. من المهم ان يتم تحديد الاحتياجات المستقبلية من التخصصات الفنية والتقنية وفقا للمعلومات المتوفرة بالعمالة المدربة، ووضع خطة استراتيجية متكاملة تتضح من خلالها الرؤى المستقبلية من التخصصات الضرورية بدلا من الاسراع في مشاريع غير مدروسة.

وهنا لابد من التذكير بتقرير صدر عن المؤتمر الدولي الثالث للتعليم والتدريب التقني والمهني المنعقد في شنغهاي عام 2012 تحديدا للمجالات الرئيسية للسياسات المتعلقة بالتعليم والتدريب التقني والمهني نرى ضرورة تبنيها ودفعها قدماً من قبل العراق بحيث يتسنى تحقيق التقدّم المرجو والضروري لكي نتمكن من مجابهة الأوضاع الراهنة وتحديات المستقبل، ويمكن ايجاز هذه المجالات بالعناوين الرئيسة التالية التي لا بد أن يتم تفصيل بنودها بالرجوع إلى ما يعترض العراق من تحديات تخص كلاً منها كالاتي:

1- تبني أنماط جديدة تكفل الحكم الجيد

2- الاستجابة للطلب على التدريب المهني والتقني

3- السعي لتحقيق الأهداف الاجتماعية للتدريب المهني والتقني

4- تعزيز أساليب التعليم والتدريب التقني والمهني من خلال سياسات شاملة

5- تمكين المتعلمين

6- تحديث أساليب التعليم والتدريب التقني والمهني

7- نشر التعلم من خلال العمل

8- استثمار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم والتدريب التقني والمهني

9- توفير التمويل الكافي للنهوض بنوعية التعليم والتدريب التقني والمهني

هذا، ويجب ان يأخذ التعليم التقني والمهني الصدارة في درجة الاهتمام بأنواع التعليم وأن تكون له الأولوية على التعليم الأكاديمي، وهذا يتطلب تغيير تقاليد التعليم، بالإضافة إلى تغيير النظرة الدونية للحِرَفِ والمهارات التقنية باعتبارها تكتسب بالخبرة والتدريب وليس بالدراسة الاكاديمية. لابد من القضاء على ثقافة “العيب” المهني المنتشرة في مجتمعاتنا، والتي تحول دون دخول الكثير من الطلبة الى المدارس والمعاهد والكليات التقنية.

في النهاية، نرى أن هناك ثمة حاجة إلى إصلاح نظام التعليم الجامعي بما يتضمن من مراجعة المناهج والبرامج بناء على احتياجات سوق العمل، كما وهناك حاجة إلى توسيع التعليم المهني والتقني، والى تعزيز قدرات ومهارات الخريجين، والتأكيد على أهمية تطبيق معايير الجودة والتميز وعلى تعزيز مهارات التفكير النقدي التي تساعد على فهم أفضل لتجارب وآراء الآخرين، وتعزز من القدرات على العمل مع مختلف الناس وفي مختلف الظروف.