نيتساني عوز (إسرائيل) (رويترز) - يظهر في مجال الرؤية فجأة علم فلسطيني عملاق فوق كتل الأسمنت الرمادية التي تشكل الجدار الإسرائيلي العازل بالضفة الغربية، ليعطي لمحة نادرة عن ”الآخر“ قبل أن تتلاشى الصورة في المرآة الخلفية للسيارة وهي تمرق بعيدا عن المكان.
فلسطيني يسير أمام قطاع من الجدار العازل، الذي شيدته اسرائيل في الضفة الغربية، وذلك في مدينة بيت لحم يوم 25 سبتمبر أيلول 2020. تصوير: موسى قواسمة-رويترز.
وإلى الشمال قرب أثار مجدو القديمة والمواقع السياحية على جبل جلبوع يقود الانعطاف بالسيارة في اتجاه خاطيء إلى لافتة تحذير أو تكشف فجوة بين الأشجار عن قرية فلسطينية في الضفة الغربية على مسافة بعيدة أسفل الجبل.
تكشف الندرة النسبية لهذه اللمحات العابرة إلى أي مدى توقف كثير من الإسرائيليين عن رؤية الفلسطينيين كشركاء سلام محتملين بعد 20 عاما على الانتفاضة الفلسطينية الثانية بل ويفضلون عدم رؤيتهم على الإطلاق.
وتنسب إسرائيل للجدار العازل الفضل في وقف التفجيرات الانتحارية والهجمات بالأسلحة النارية خلال الانتفاضة التي استمرت خمس سنوات وأسفرت عن مقتل أكثر من ألف إسرائيلي و3000 فلسطيني.
ويقول الفلسطينيون إن الجدار العازل اقتطع أجزاء من أراضيهم وتوغل أميالا داخل الضفة الغربية وإنه استهدف ضم أجزاء من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967 والتي يطالب الفلسطينيون بإقامة دولتهم المستقبلية عليها.
وأفتت محكمة العدل الدولية في لاهاي في عام 2004 بأن الجدار العازل مخالف للقانون الدولي وهو ما رفضته إسرائيل واتهمت المحكمة بأن لها ”دوافع سياسية“.
لكن لا جدال يذكر في أن الجدار حرك الأسس الجغرافية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني إذ غيّر جذريا ديناميكية العلاقة المتداخلة بين الشعبين.
وفي حين كان بوسع فلسطينيي الضفة الغربية قبل عام 2000 دخول إسرائيل بسهولة سواء بالسيارة أو مشيا على الأقدام، أصبح أرجح الاحتمالات أن يراهم بعض الإسرائيليين أثناء خدمتهم في الجيش عند نقاط التفتيش - إلا إذا كانوا بين 450 ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون الآن في مستوطنات الضفة الغربية.
ومن المستوطنات الحدودية مثل نيتساني عوز الواقعة داخل إسرائيل مباشرة أصبحت أميال من الأسوار وأبراج المراقبة بينها وبين الضفة الغربية واقعا ثابتا.
يقول شاتشار جولدرات (36 عاما) في تل أبيب ”ببناء الجدار خلقنا واقعا على الأرض - واقع من جانب واحد.
”لقد خلق وضعا يتيح درجة من الأمن، لذا نعم .. كان وسيلة للتسليم والقول ’لن تكون هناك معاهدة سلام في أي وقت قريب‘“.
* عملية فصل
اندلعت الانتفاضة في 28 سبتمبر أيلول عام 2000 بعد زيارة زعيم المعارضة الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون المنطقة المتنازع عليها بشدة التي يسميها الفلسطينيون الحرم القدسي الشريف ويسميها اليهود جبل الهيكل.
اعتبر الفلسطينيون تجول شارون في الموقع استفزازا محسوبا، ولكن إسرائيل اتهمت الزعيم الفلسطيني آنذاك ياسر عرفات بالتحريض على العنف بعد شهرين من قمة سلام فاشلة في الولايات المتحدة.
وأوضح الفلسطينيون أنهم لن يقبلوا بأقل من دولة لها مقومات البقاء على أراض تحتلها إسرائيل الآن تكون عاصمتها القدس الشرقية، بينما خلص كثيرون من الإسرائيليين إلى أنه ليس لديهم الآن ”شريك للسلام“.
على مسافة 60 كيلومترا فقط جنوبي تل أبيب تقع غزة حيث يعيش مليونا فلسطيني في ظل حكم حركة حماس الإسلامية التي تعتبرها إسرائيل والولايات المتحدة تنظيما إرهابيا.
ومنذ سحبت إسرائيل قواتها ومستوطنيها من غزة في عام 2005 وبسطت حركة حماس سيطرتها على الشريط الضيق أصبح الاتصال المباشر أقل حتى من ذي قبل - عدا عن الصواريخ التي يطلقها متشددون فلسطينيون على إسرائيل والضربات الجوية الإسرائيلية على غزة ذات الكثافة السكانية العالية.
وتزعم شارون الذي كان رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت حملة تشييد الجدار العازل في الضفة الغربية والانسحاب من غزة.
إيفال جلعادي وهو مستشار سابق لشارون قال لرويترز ”ما كنا ننويه هو عملية انفصال عن الفلسطينيين. كانت رؤية لإخماد الانتفاضة حتى يتسنى لنا عندئذ إحراز تقدم ليس تحت ضغط الإرهاب وإنما من خلال التحرك الاستباقي والتحلي بالقوة“.
ويتحسر جلعادي على ما يصفه بأنه ”عقد ضائع“ لم تحسن فيه إسرائيل في اعتقاده ”استخدام الظروف الإيجابية التي كانت لدينا“ في تحقيق ”نتيجة أكثر نجاحا مع الفلسطينيين“.
وانهارت الجولة الأخيرة من محادثات السلام قبل ستة أعوام.
لكن المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس قال إن الأثر الرئيسي للانتفاضة كان ”تصلب المواقف الإسرائيلية“ من الفلسطينيين بعد العيش في ظل الخوف اليومي من التفجيرات في الحافلات والمطاعم.
وأضاف قائلا لرويترز إن الجدار كان أحد أشكال التعبير عن ذلك.
وقال ”انصرف تفكير الإسرائيليين عن الفلسطينيين. وهم يريدون أقل قدر ممكن من التعامل معهم ويريدون أقل عدد ممكن منهم حولهم والجدار ساعد في تبلور هذاالموقف“.
وتابع موريس ”أكثر من ألف إسرائيلي لقوا مصرعهم على أيدي المفجرين والقناصة في المطاعم وغيرها وهذا جعل الإسرائيليين في غاية الغضب. وأنا واثق أن رد الفعل الإسرائيلي على ذلك أثار غضب الفلسطينيين. لكنه جعل الإسرائيليين يدركون أن الفلسطينيين ليسوا مهتمين حقا بإحلال السلام وإنما فقط بتدمير إسرائيل. أعتقد أن هذا كان الأثر الرئيسي على الإسرائيليين“.
بيد أن بعض الإسرائيليين يريدون إعادة النظر في الأمر - لأسباب ليس أقلها جائحة فيروس كورونا التي أرغمت الجميع على تطبيق إجراءات العزل العام.
وقال المحامي درور جال (65 عاما) في تل أبيب ”أعتقد أنه ليس بوسعنا النظر للماضي، علينا التطلع نحو المستقبل“.
وأضاف ”وفي أيام الفيروس هذه أساسا... ينبغي لنا أن نتعاون، ينبغي لنا العيش معا، من أجل البقاء“.