في منطقة اللحيس الصحراوية التي تقع على بُعد 120 كيلو متراً عن مدينة البصرة في جنوب العراق، زُرعت 13 ألف نخلة في غضون السنوات القليلة الماضية كخطوة أولى في اتجاه زراعة 80 مليون نخلة على مساحة 8 آلاف دونم (20 مليون متر مربع)، وذلك تنفيذاً لمشروع استثماري زراعي يعد الأول من نوعه على مستوى المحافظة.
مستثمر كويتي
لا يقتصر المشروع على زراعة النخيل فحسب، وإنما يشمل إنشاء مزارع مغطاة لإنتاج بعض أنواع المحاصيل الموسمية، وتربية الأغنام والجمال والغزلان مع إقامة حقول للدجاج والنعام. وقال المشرف على المشروع ضياء الشريدة، إن "المشروع منح رخصة استثمارية، وتبلغ تكلفته الإجمالية 58 مليون دولار، وتم تأجير الأرض لمدة 25 عاماً"، مبيناً أن "المشروع أحيا منطقة صحراوية كانت مهملة، ومن المقرر أن يغطي بعد إنجازه بحدود 15 في المئة من الطلب المحلي على استهلاك التمور في البصرة".
وأشار الشريدة إلى أن "زراعة النخيل في القاطع الصحراوي من البصرة تعد تجربة جديدة نسبياً"، مضيفاً أن "أبرز مشكلة واجهتنا في بداية المشروع هي ملوحة مياه الآبار، وتغلبنا عليها باستخدام محطات لتحلية مياه الري".
أما المستثمر صاحب المشروع فهو رجل الأعمال الكويتي عبد العزيز سعود البابطين الذي يملك أعمالاً تجارية في أنحاء من أوروبا وأميركا والشرق الأوسط، ويعرف في الأوساط الثقافية العربية بأنه شاعر، وهو رئيس "مؤسسة البابطين للإبداع الشعري" ذات النشاط العالمي، ونال نظير جهوده الثقافية، أوسمة وجوائز عديدة، وحاز شهادة الدكتوراه الفخرية من عدد من الجامعات، من بينها جامعات باكو والكويت والخرطوم. ولعل ذكريات الطفولة وارتباطه العاطفي بالبصرة كانا من العوامل التي شجعته، بأكثر من الجدوى الاقتصادية، على تنفيذ مشروعه الزراعي، إذ نشأ في مدينة الزبير الواقعة غرب البصرة، وتخرج فيها من مدرسة النجاة الأهلية خلال الأربعينات، ثم عاد إلى الكويت وشق طريقه في مجال التجارة معتمداً على نفسه حتى صار من كبار رجال الأعمال في منطقة الخليج.
مشاريع أخرى
كانت بساتين النخيل في البصرة تتركز قرب ضفاف الأنهار في أقضية أبي الخصيب وشط العرب والفاو، وفي هذه المناطق دارت رحى بعض أعنف معارك حرب الخليج الأولى (1980-1988)، التي تمخضت عن هلاك مئات آلاف من أشجار النخيل، وبعد انتهاء الحرب بسنوات قليلة، نشأت أزمة السكن التي أدى تفاقمها بعد عام 2003 إلى جرف مئات من بساتين النخيل، وإقامة أحياء سكنية مكانها، ثم تعرض قطاع زراعة النخيل لهزة عنيفة بسبب ملوحة مياه شط العرب ابتداءً من عام 2007، وهذه المشكلة ناجمة عن تغلغل مياه الخليج شديدة الملوحة في مجرى الشط الذي تروى من مياهه معظم بساتين النخيل. وفي غضون ذلك، بدأت تتشكل ظاهرة زراعة النخيل في القاطع الصحراوي.
ويعد مشروع البابطين أكبر مشروع استثماري زراعي في البصرة، وهناك من يعول على نجاحه في فتح أبواب الاستثمار أمام تنفيذ مشاريع مشابهة في مناطق صحراوية أخرى من المحافظة. وبحسب رئيس هيئة الاستثمار في البصرة علاء عبد الحسين فإن "البصرة فيها أكثر من مليوني دونم (أكثر من خمسة مليارات متر مربع) من الأراضي الصالحة للاستثمار الزراعي، أكثرها تقع ضمن القاطع الصحراوي"، موضحاً أن "استغلال هذه المساحات في تنفيذ مشاريع زراعية يحتاج إلى موافقات من الحكومة العراقية لأن الكثير منها مصنفة كأراض نفطية لا يجوز استغلالها في مشاريع زراعية".
ويرغب القائمون على مشروع البابطين باستيراد الآلاف من فسائل النخيل من السعودية والسودان لزراعتها في المزرعة، إلا أن القوانين العراقية لا تسمح باستيراد تلك الفسائل من الخارج منعاً لتسرب آفات زراعية.
وفي ذلك مفارقة لا تخلو من الغرابة، وهي أن يضطر مزارعون إلى استيراد فسائل النخيل لزراعتها في البصرة التي كانت تصدر الفسائل ذات الأصناف الممتازة، وخصوصاً صنف "البرحي" الذي يكتسب شهرة عالمية، وتعد البصرة موطنه الأصلي، إذ ظهر فيها لأول مرة، ونقل منها إلى دول بعيدة وقريبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلى كاليفورنيا والقصيم
لكل بلد نجح في زراعة نخيل "البرحي" قصة تستحق أن تروى حول كيفية جلب فسائله من البصرة. وتعد السعودية أحد هذه البلدان، وجاء في الجزء الأول من "معجم بلاد القصيم" لمحمد ناصر العبودي أن عبد الله بن محمد البسام التميمي هو أول من أحضر فسيلين من البصرة عام 1893، إذ وضعهما في سلتين كبيرتين من الخوص، ونقلهما على ظهر بعير، ولما زرعهما في مزرعته بمنطقة عنيزة في القصيم، مات فسيل، وعاش الآخر. وكل ما كان في عنيزة من "برحي"، كان من نتاج الفسيل، ثم عرف الناس فائدة "البرحي"، ورغبوا بغرس مزيد منه، فأخذوا يجلبونه من البصرة، واليوم تتصدر القصيم مناطق شبه الجزيرة العربية في إنتاج التمور بوجود أكثر من ستة ملايين نخلة في أراضيها، نسبة غير قليلة منها من صنف "البرحي".
وفي عام 1911 جاء عالم الزراعة بول جون بوبينيو مع شقيقه ويلسون من الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لشراء فسائل نخيل من أجل بيعها في مشتلهما، فذهبا بدايةً إلى المغرب، ثم توجها إلى عمان، ومنها انطلقا إلى البصرة، وعند وصولهما أدهشتهما مناظر بساتين النخيل الكثيفة، فكتب بول في مذكراته "دخلنا أكبر بقعة لإنتاج التمور في العالم"، بينما كتب شقيقه ويلسون في مذكراته "على طول ضفاف شط العرب اشترينا الآلاف من فسائل النخيل، كما ذهبنا إلى بغداد واشترينا آلافاً من فسائل نخيلها، وتنفسنا الصعداء عندما تم تحميل 9000 فسيلة على ظهر باخرة انطلقت بنا من البصرة"، وفي أثناء رحلة العودة واجهت الباخرة عاصفة هوجاء في البحر الأحمر أدت إلى انزلاق وفقدان بعض الفسائل. كما عانى الأخوان من عدم توفر مياه عذبة لترطيب جذور الفسائل للحفاظ عليها حية، فاضطر ويلسون إلى مقايضة القبطان آلة طباعة مقابل المياه، وعند رسو الباخرة في ميناء هيوستن عام 1913 تم تفريغ أول شحنة تجارية من فسائل النخيل في تاريخ الولايات المتحدة، وتم نقلها بواسطة 17 شاحنة إلى وجهتها الأخيرة، حيث ولاية كاليفورنيا التي تعد اليوم من أهم مناطق زراعة النخيل وإنتاج التمور على مستوى العالم.
بين الماضي والحاضر
على مدى مئات السنين كان اقتصاد البصرة يعتمد بنسبة كبيرة على زراعة النخيل وتجارة التمور، وذكر السياسي والصحافي سليمان فيضي الذي كان نائباً عن البصرة في "مجلس المبعوثان العثماني" في كتابه "البصرة العظمى" إلى أن "البصرة تضم ثلث نخيل العالم أجمع لغاية أواخر الأربعينات، وكانت تنتج 130 ألف طن من التمور سنوياً، يصدر منها إلى الخارج حوالى 100 ألف طن، ويستهلك الباقي في العراق"، بينما أشار قنصل روسيا القيصرية ألكسندر أداموف في كتابه "ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها" الصادر في سانت بطرسبرغ عام 1912 إلى أن "ثلث حاصل التمور في البصرة كان ينقل بواسطة البواخر إلى أوروبا وأميركا، وثلثه الآخر ينقل على سفن شراعية إلى موانئ الهند والخليج والبحر الأحمر".
وعن اتجاهات تصدير تمور البصرة في الماضي، ذكر منصور السالم في كتابه "أبي الخصيب وشط العرب" الصادر عام 2012، أن "الأنواع التي تصدر إلى الخارج هي الحلاوي والخضراوي والساير. فالحلاوي مرغوب في أميركا أكثر من غيره؛ لأنه كبير الحجم، وجذاب اللون، والخضراوي أدكن اللون ذو منظر جذاب، وهو متوسط الحجم، ويباع بأسعار أقل من الحلاوي، ومرغوب في أوروبا وأستراليا وأميركا، أما الساير فلونه أصفر مشبع بحُمرة، وهو يصدر بكثرة إلى أستراليا وأوروبا وأميركا، أما الأصناف الأخرى، مثل الزهدي، والديري، والخستاوي، والأشرسي، والجوزي، فكانت تكبس بالخصاف والسلال والجلود والأكياس وترسل إلى الأسواق العالمية كالهند، وبلاد العرب، والبلاد الواقعة على حوضي البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وأكثرها كان ينقل بسفن شراعية".
وبالعودة إلى الوراء أكثر، أشار المؤرخ والجغرافي محمد الحميري في كتابه "الروض المعطار في خبر الأقطار" إلى أن "أهل البصرة أعلم قوم بالنخل، وأحذقهم بغراستها وتربيتها وإصلاحها وإصلاح عللها وأدوائها، وأعرفهم بأحوالها من حين تغرس إلى حين تكمل وتستوي، وأبصرهم بالتمر وخرصه وتمييزه وخزنه، وهي تجارتهم العظمى، وعدتهم الكبرى، وفي البصرة من أصناف النخيل ما ليس في بلد من بلاد الدنيا".
وخلال العصر العباسي، تساءل تاجر بغدادي فاحش الثراء لم يذق طعم الخسارة خلال تعاملاته التجارية، يدعى ابن الجصاص الجوهري: كيف لي أن أخسر؟ فقالوا له: اشترِ تمراً بالكوفة، وبعه في البصرة". ولو كان ابن الجصاص حياً في الحاضر لعزز من مكاسبه بهذه الصفقة، ففي غفلة من الزمن صارت البصرة تستورد التمور من دول مجاورة من أجل إشباع الاستهلاك المحلي، وهي مفارقة لم تكن في الحسبان، أن تتحول المدينة من أكبر مصدر للتمور إلى مستورد لها. وكثيراً ما يتحدث البصريون عن هذه المفارقة للدلالة على تبدل الأحوال وتغير الأوضاع، لكنهم لم يفقدوا الأمل بإمكانية استعادة مدينتهم مكانتها العالمية ودورها الريادي في زراعة النخيل وإنتاج التمور.