تمثل أزمة العشوائيات في العراق أكبر تحدٍ للدولة العراقية في السنوات المقبلة؛ كونها تمثل قنابل موقوتة قد تعصف بما تبقى من تماسك المجتمع العراقي وتنهي القليل من الأمن النسبي الذي تعيشه أغلب المدن العراقية، والذي تنغصه بين الحين والآخر أعمال العنف التي تقوم بها الجماعات المسلحة والميليشيات التي لها أذرع سياسية واقتصادية.
وزادت مشكلة العشوائيات بعد عام 2003 بشكل غير متوقع في أبرز المدن العراقية، من خلال قيام "مافيات تدعمها جهات سياسية" ببيع أراضي الدولة للمواطنين، أو بناء مساكن لأنصارها من دون موافقات رسمية، أدت إلى تدمير البنى التحتية، وتراجع مستوى الخدمات في مناطق العراق كافة، ونشوء مجتمعات جديدة قد لا تنسجم بشكل أو بآخر مع تقاليد المدنية العراقية وعاداتها، التي عرفت بها الدولة العراقية منذ تأسيسها في عشرينيات القرن الماضي. وعزز الفقر المدقع الذي يعشيه عدد ليس بالقليل نتيجة الأزمات التي عاشها العراقيون خلال حقبات متلاحق، ظهور هذه الفئة.
وعلى الرغم من حديث الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط نظام صدام حسين عن إيجاد حلول لها، فإن ما حدث على أرض الواقع هو انتشارها، ومن دون توقف، لتشمل مساحات واسعة في محيط أهم المدن العراقية لتحولها إلى قرى كبيرة غير صالحة للسكن، يختفي معها كثير من مظاهر الحضارة العالمية. وكان لوزارة التخطيط العراقية خلال السنوات الماضية سلسة من التقارير المهمة بشأن هذه الظاهرة الخطيرة، لكن لم تترجم إلى خطط حكومية واضحة تجد حلاً لها لأسباب كثيرة، منها عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في البلاد.
بغداد والبصرة ونينوى في الصدارة
كشفت الوزارة عن وجود 4000 مجمع عشوائي في عموم العراق، تضم 522 ألف وحدة سكنية، يسكن فيها ما يقارب 3.5 مليون إنسان عراقي. ويقول المتحدث الرسمي باسمها، عبد الزهرة الهنداوي "هناك أكثر من 1000 مجمع عشوائي في بغداد تمثل ربع عدد العشوائيات في العراق"، مبيناً أن البصرة ونينوى جاءتا بعد بغداد بـ700 مجمع عشوائي لكل منهما، ثم باقي المحافظات تتراوح بين 100 و500 عشوائية.
ويضيف عبد الزهرة أن "مدينتي كربلاء والنجف كانتا الأقل بعدد العشوائيات بمقدار 88 لكربلاء و99 للنجف".
وبشأن الحلول المقترحة لتلك المشكلة، بين عبد الزهرة، أن وزارة التخطيط وضعت خريطة طريق بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للمجمعات البشرية (الهيبتات) للحد من العشوائيات، تمثلت بإجراء مسح ميداني للوقوف على خصائص السكان وبناء معطيات عن نوعية التدخل المطلوب.
ويلفت إلى أن "وزارة التخطيط قدمت مسودة قانون لمجلس النواب لكيفية معالجة هذه الأزمة، يمثل غطاءً قانونياً للمعالجة، ويتضمن مسارات عدَّة، منها تأهيل العشوائيات، وبناء مجمعات سكنية منخفضة التكلفة، وتمليك العشوائيات مقابل ثمن تتم دراسته من قبل المجلس لإقراره إذا ما توفرت الظروف المناسبة".
التمليك مقابل المال
لعل الحلول تحتاج إلى تشريعات برلمانية قبل أن ترسل للحكومة لغرض التنفيذ. وعلى الرغم من وجود مسودة قانون طرحت خلال الدورة الماضية للبرلمان الماضي، فإن القانون كان مثيراً للجدل؛ كونه سيعطي غطاءً قانونياً لتمليك شاغلي العشوائيات، ما يعده المعارضون تشجيعاً للمتجاوزين، لا سيما أن بعض الأراضي تقع في أماكن استراتيجية داخل المدن وأخرى كانت ساحات عامة كان مقرراً أن تكون مرفقاً لبعض الخدمات، إلا أن لجنة الخدمات النيابية التي تناقش مسودة القانون تزيل بعض المخاوف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتحدث رئيس لجنة الخدمات والإعمار في مجلس النواب، وليد عبد الحسين، عن وجود قانون باسم "قانون معالجة العشوائيات" سيتم طرحه في المجلس للقراءة الثانية خلال الفترة المقبلة، متوقعاً أن تتراوح أعداد الساكنين بالعشوائيات بين خمسة وستة ملايين شخص.
ويضيف عبد الحسين أن "قانون معالجة العشوائيات حدد كيفية التعامل مع هذه المسألة في أغلب محافظات العراق، من خلال تمليك الأراضي لساكنيها إذا كانت داخل التخطيط الأساسي، واشترط ألا تكون ضمن المساحات الخضراء بعد دفع المستفيد مبلغاً من المال وفق قدرته الشرائية".
ومن الممكن إنشاء صندوق خاص لبناء البنى التحتية للعشوائيات، بحسب عبد الحسين، الذي حدد هدف هذا الصندوق بمنح الطبقات المسحوقة التي تسكن في مناطق التجاوز، أحقية السكن الملائم.
وعلى الرغم من أن قانون معالجة هذه الظاهرة يهدف للحد من التجاوزات وإيجاد حلول مناسبة لها، كونها تزداد سنوياً، وتدمر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية التي يتم تجزئتها وبيعها، فإن عدم وجود رؤية حكومية واضحة قد يؤخر إيجاد حلول واقعية لهذا الملف، بحسب مختصين.
لا توجد رؤية حكومية
تقول ندى شاكر، عضو اللجنة الاقتصادية في مجلس النواب، إن "العشوائيات المنتشرة في البلاد تفتقد إلى أبسط مقومات العيش وتنتشر فيها أمراض اجتماعية خطيرة"، مشيرة إلى عدم وجود رؤية حكومية لإيجاد حلول لساكنيها تضمن لهم سكناً لائقاً بهم.
وتضيف شاكر "هناك دور شيدت على أراضٍ زراعية ترفض الجهات الحكومية تغييرها إلى سكنية، ما أدخلها ضمن خانة العشوائيات؛ لأنها أراضٍ غير مخدومة، إلا أنها تعد أكثر رقياً".
وتتابع "تركزت أغلب التجاوزات على الأراضي العامة والزراعية لتشكل عشوائيات ضخمة في مدن البلاد كافة، أدت إلى تدمير مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، خصوصاً في العاصمة بغداد والمناطق الوسطى من العراق، حولت الخصبة منها إلى مبانٍ خرسانية".
حلول مقترحة
كانت هناك جهود لكل من وزارة التخطيط وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية عام 2017، بحصر وتحديد حدود المستوطنات العشوائية في 15 محافظة من محافظات العراق، بناءً على تحليل صور الأقمار الصناعية، باستخدام نظام المعلومات الجغراقية، ما سمح للسلطات الحكومية ذات الصلة بالحصول على معلومات أساسية عن المستوطنات العشوائية من مواقعها وأعدادها وحجمها.
وتعطي المحللة الاقتصادية سلام سميسم بعض الحلول التي كان من الممكن أن تطبقها الحكومة العراقية لمعالجة العشوائيات.
كان من الممكن حل المشكلة عبر تشريع قانون لتشكيل هيئة التنمية العقارية قدم لمجلس النواب، لكنه لم يقر، تتكفل من خلاله الدولة، بحسب سميسم، بتوفير أراضٍ لجهات حكومية أو القطاع الخاص بضمان مصرفي لإنشاء وحدات سكنية منخفضة التكلفة، توزع على المستحقين بشرط عدم تمليكها إلا بعد سداد كامل ثمنها.
وتضيف أنه من الممكن الاستعانة بشركات كبيرة لبناء وحدات سكنية بتكلفة منخفضة من أجل التخلص من العشوائيات، لا سيما أنها أصبحت بيئة غير صحية بسبب غياب الوعي الصحي، وما يترتب عليه من مظهر غير حضاري لبغداد وباقي المحافظات.
وتضيف "الدولة غير جادة لحل مشكلة العشوائيات في العراق، وتنعدم حالياً الخطط الحكومية بشأنها"، مشددة على ضرورة حل هذه المعضلة لأنها أصبحت بؤرة للفقر والجهل وبيئة ملائمة للانحراف السلوكي وتجارة السلاح والمخدرات.
الصدارة ليست للحل الأمني
من جهته، يشير المتخصص في المجال الأمني، مؤيد الجحيشي، إلى انتشار الجريمة، لا سيما المخدرات والتزوير في تلك العشوائيات، وأن الحل يقضي بإيجاد البديل المناسب وتثقيف هؤلاء للحيلولة دون نشوء عصابات من ساكني العشوائيات.
ويضيف "ما حصل عام 2003، وما رافقها من أحداث، بالإضافة إلى الفقر الذي يتربص بعدد كبير من الشعب العراقي، كلها أسباب أسهمت في انتشار العشوائيات"، مبيناً أن حل تلك الأزمة كان يتمثل بإنشاء مجمعات سكنية منخفضة التكلفة خارج حدود العاصمة بغداد.
ويحذر الجحيشي من صعوبة السيطرة الأمنية على العشوائيات من دون القيام بجرد واضح لسكانيها، وتأمين بديل منظم، لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن الحل الأمني لهذه القضية يأتي ضمن سلسة من الحلول، وليس أولها.