لوكوربوزييه صمّم "ملعب بغداد الرياضي" وذهب إلى النسيان

آخر تحديث 2020-11-23 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

حدث ذلك بين العامين 1955 و1957 خلال حكم الزعيم العراقي نوري السعيد في فترة عرف العراق فيها نوعاً من استقلال تقوده "البورجوازية الوطنية" مرتبط بالإنجليز بشكل أو آخر.

تلك الفترة عرفت أيضاً وفرة مالية ضخمة في بلاد الرافدين تحققت بفضل بداية التدفق الضخم للمداخيل البترولية ما جعل منها واحدة من أغنى دول المنطقة، مطلقة مقولة تتحدث عن "الثروة المزدوجة" التي يؤمنها وجود النفط والماء في بلد واحد. لكن العراق كان يعرف ثروة أخرى تتمثل في التطور الثقافي المدهش لبلد راح يكتشف تاريخه الحضاري وارتباطه بنهضات عمرانية متتالية تمهد في ذلك الحين لازدهار عمرنة كان لا بد لها أول الأمر أن تتعايش مع النهضة العمرانية العالمية كي تطلق ما يواكبها محلياً.

من هنا راحت السلطات العراقية تستقطب عدداً من كبار العمرانيين ومشاهيرهم من أنحاء العالم لإنجاز مشاريع تصاغ ويبدأ تنفيذها بالتدريج.

 صحيح أن قيام الثورة وجمهوريتها الصاخبة الدامية وذات التطلعات المختلفة في تلك الآوتة بالذات، 1908، وضع حداً لذلك الطموح الحضاري، لكن بعض المشاريع تحقق ليبقى شاهداً على حقبة في تاريخ العمران الحضاري ارتبطت بأسماء فرانك لويد رايت، وفالتر غروبيوس، وجو بونتي ومارينوس دوبوك، وآلفار آلتو، وصولاً إلى الفرنسي / السويسري لوكوربوزييه الذي سيكون من العبث على أية حال إيجاد أي أثر له في تلك الفورة العراقية في أي كتاب وضع عنه، وعلى الأقل حتى عام 2005 كما سنرى بعد سطور.

غياب لوكوربوزييه

إذا كان بعض المشاريع العراقية التي عُهد بها إلى أصحاب تلك الأسماء الكبيرة في العمارة العالمية، قد تحقق وذُكرت لأصحابها، بقي ما أنجزه لوكوربوزييه مطموراً ومسكوتاً عنه من دون أن تتضح أسباب ذلك، حتى وإن كان هذا العمراني من القلة الذين أنجزوا جزءاً لا بأس به من التصاميم الممهدة للتنفيذ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على الرغم من أن قيام ثورة 1958 قد أوقف إنجاز مشروعه الضخم أسوة بما حدث للعديد من المشاريع الأخرى، فإن العام 1982 شهد نوعاً من عودة مختصرة على أية حال، لتنفيذ جزء من ذلك المشروع يعرف اليوم بـ"ملعب بغداد الرياضي" (الجمنازيوم) والذي أوقف تنفيذه مع استشراء الحرب الإيرانية العراقية. مهما يكن، لا بد من الإشارة إلى أن العودة إلى المشروع تمت من دون أي ذكر لصاحبه الذي كان قد رحل عن عالمنا عام 1965 ومن دون أن يعرف شيئاً عما ستؤول إليه المشروع المجمع، علماً أنه كان مهتماً به بحيث وضع له بنفسه أكثر من خمسمئة مخطط ورسم.

جزء من مشروع ضخم

لئن كانت الحكاية مع لوكوربوزييه قد توقفت على ذلك النحو، لينسى الجميع أن الجمنازيوم في حد ذاته لم يكن في الأصل سوى جزء ضئيل من مشروع أصلي وضعه "مجلس الإعمار" يقضي بإنشاء مدينة رياضية أولمبية متكاملة تضم ملعباً ضخماً يتسع لخمسين ألف متفرج وحوض سباحة وصالات ترفيه وحوضاً ذا أمواج والجمناز الذي ستوعب نحو ثلاثة آلاف وخمسمئة متفرج وقاعات إدارية، فإن ربيع العام 1980 قد شهد اكتماله بشكل لم يعد أحد يذكر، أو حتى يتذكّر معه، أنه من توقيع لوكوربوزييه. هكذا مثلاً تفيدنا السيرة المهنية له، بأنه خلال النصف الأول من سنوات الخمسين عمل فعلاً في القارة الآسيوية منكباً فيها على مشاريع بالغة الأهمية حققها في الهند واليابان... من دون العراق!

من هنا كان من الضروري انتظار 2005 بعد عامين من "تحرير" العراق من حكم صدام حسين واحتلال القوات الأميركية له، لتتوجه سيسيليا بييري، الباحثة في "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى" إلى بغداد ضمن إطار عملها على أطروحة جامعية عن "الأعمال الهندسية المعاصرة في بغداد". وهناك "اكتشفت" وجود الجمنازيوم كما "اكتشفت" أنه اُنجز بالفعل وشهد تدريب وإعداد أجيال بأسرها من الرياضيين العراقيين كما استضاف مسابقات عالمية، بالتالي عرف مجداً توقف عام 2003 حين عسكرت فيه قوات أميركية سنة كاملة وعاثت فيه فساداً وخراباً... لكن كل هذا من دون أن يذكر أحد اسم مهندسه.

نهضة أنجبت عمرانيين عراقيين مدهشين

الحقيقة أن سيسيليا بييري ستكون من أوائل الباحثين الذين سيربطون "الجمناز" بالمجمّع الذي صممه لوكوربوزييه لحساب "مجلس الإعمار"... وبسلسلة المشاريع الضخمة والطموحة التي تبناها هذا المجلس قبل ثورة 1958 التي أوقفت معظمها: دار للأوبرا عهد تصميمها إلى فرانك لويد رايت، مجمع جامعي ضخم ومعاصر عهد إلى فالتر غروبيوس، الذي كان نقل عمله إلى بوسطن بعد مبارحته ألمانيا حيث أسس البوهاوس، مقر وزارة التخطيط عهد به إلى الإيطالي جو بونتي، ومتحف ضخم كُلّف به الفنلندي آلفار آلتو، ناهيك عن مركز التنمية الحضرية صممه الهولندي مارينوس دوبوك.

 لم يكن هذا كله سوى جزء من تلك المشاريع التي يمكننا أن نتصور كيف أن تحققيها كان من شأنه أن يجعل من بغداد عاصمة للنهضة العمرانية في العالم، ويمكننا أن نتصوّر أيضاً أن تضافر تلك النهضة ولو في بُعدها النظري خلال النصف الأول من سنوات الخمسين، سيكون الرحم الذي منه انطلقت تلك النهضة العمرانية العراقية في تلك المرحلة التي سادت فيها بورجوازية وطنية ميالة إلى البناء، وحقبة ليبرالية تعرف معنى الانفتاح على الآخر وما يمكن لهذا الآخر أن يحققه من مشاريع في بلد يملك تقاليد عمرانية تمتد آلاف السنوات، تنعكس على أساليب عمل هذا الآخر نفسه ويعود بالفائدة الجمة على البلد. بالفعل لا يمكننا هنا الحديث عن هذا كله من دون أن نصل في حديثنا إلى سلسلة طويلة من عمرانيين عراقيين تمتد من محمد مكية إلى رفعت الجادرجي وزها حديد.

من تصميم الرئيس!

أوصل اكتشاف علاقة لوكوربوزييه بالجمنازيوم الباحثة سيسيليا بييري إلى تخوم هذا التصور والفرضيات المرتبطة به بالطبع، لكنه عثر على الحلقة المفقودة في مسار لوكوربوزييه المهني معيداً إلى الملعب، ولو نظرياً اسمه "جمنازيوم لوكوربوزييه" بعد ما عُرف طويلاً باسم "ملعب صدّام" وخيّل إلى كثر من العراقيين البسطاء أنه من تصميم رئيسهم فيما لم تجرؤ النخبة العالمة ببواطن الأمور، على تبيان الحقيقة!

صحيح أن هذا "الاكتشاف" المتأخر لا يضيف الكثير إلى اسم لوكوربوزييه، فالجمنازيوم ليس سوى جزء من مشروع متكامل كان يتعين عليه أن يتحقق بكامله كي يضيف إلى اسم صاحبه، لكنه في المقابل يعطي نكهة لمشروع بغدادي رائع ويعيد إلى الذاكرة حقبة كانت فيها السلطات الوطنية ترسم مشروعاتها الفنية والحضارية آخذة مكانة المجتمع والانفتاح على الآخر سبيلاً للتقدم، لا رغبات الزعيم ونشر صوره ومآثره.

من الجليّ أن هذا المشروع لو اكتمل لكان من شأنه أن يُعتبر واحداً من أهم إنجازات شارل أدوار جانيري (1887 – 1965) المعروف بالاسم الذي اختاره لنفسه حين بلغ سن الشباب: لوكوربوزييه. وكان، حتى بغضّ الطرف عن رسومه الخاصة، وقصائده وكتبه النظرية التي تناولت، خصوصاً، فنون العمران قديماً وحديثاً، واحداً من أكبر أساتذة الهندسة العمرانية في طول القرن العشرين وعرضه، تشهد على هذا إنجازاته المنتشرة اليوم في أنحاء العالم، عشرات المباني السكنية ومباني المؤسسات وغير ذلك، والتي حقق فيها الرجل معظم أحلامه الفكرية والجمالية، مع أنه حين رحل عن عالمنا كان يصر على القول إنه لم يحقق سوى جزء يسير جداً مما كان يريد تحقيقه.