كما كانت الحال مع لوكوربوزييه وفرانك لويد هارت وغيرهما، لم يتحقق لقاء العاصمة العراقية مع الحداثة العمرانية في الخمسينيات والستينيات، وكان يفترض أن يتحقق من خلال والتر غروبيوس هذه المرة. وكان غروبيوس واحداً من أولئك العمرانيين العالميين الذين سعت السلطات العراقية أيام حكم نوري السعيد وفي ظل الملكية الشابة المتنورة التي كان يمثلها فيصل الثاني، إلى اجتذابهم لتحقيق مشاريع ضخمة ومعاصرة في عاصمة الرشيد، لا تكتفي بأن تجعل بغداد مدينة حديثة بل تساهم في خلق جيل محلي من العمرانيين يصلون العراق بتاريخها الفني الموغل في القدم.
هكذا بدأت الحكاية
غروبيوس الذي كان في ذلك الحين يقيم ويعمل في نيوإنغلند بالولايات المتحددة مكللاً بمجد تاريخه الكبير ولا سيما بمجد مساهماته الرئيسية في تأسيس البوهاوس في ألمانيا قبل مبارحته وطنه هذا تحت ضغط النازية، بدأت حكايته مع المشروع العراقي الذي كان من المفترض أن يكون جباراً ومتنوعاً، في أواسط الخمسينيات حين التقى طالباً عراقياً استنتج من خلال مناقشات مطولة معه أن ثمة في بغداد من يفكر بجعلها على غرار برازيليا عاصمة جديدة ومعاصرة لبلد ينفتح على العالم، وهو ما كان غروبيوس نفسه يتطلع إليه ليس في بغداد طبعاً بل في أي مكان في العالم يمكن لسلطاته أن تحتضن مشروعاً من هذا النوع يساهم فيه كبار المعماريين. وهكذا خلال عودته من رحلة طويلة قام بها إلى اليابان دُعي غروبيوس لزيارة بغداد وهناك خاض نقاشات مثمرة مع عدد من المثقفين الفاعلين في العراق تمخضت عن اتفاقه مع السلطات على أن يصمم وينفذ مشروعاً جامعياً هائل الطموح يتألف من مجمعات وبيوت وقاعات إدارة عدة تتسع لما لا يقل عن اثني عشر ألف طالب. شيء لم يسبق لأحد أن حلم به لا في العراق ولا في أي بلد شرق أوسطيّ آخر. وكانت حماسة غروبيوس كبيرة تعادل حماسة السلطات التي وعدته بتوفير كل الإمكانات اللازمة كما وعدها هو بأن يكون تصميمه فرصة لخلق مكان لقاء وحوار وتفاعل بين الأجيال العراقية الجديدة ومركز إشعاع ثفافي حقيقيّ.
حلم حياة
كان ذلك بين الأعوام 1953، 54، و54. وبالفعل انطلق غروبيوس في مشروعه بالتفاهم التام مع السلطات وزملائه من المعماريين العراقيين. وكانت التصميمات والرسوم باهرة وواعدة. وراح غروبيوس يتنقل بين أميركا وأوروبا والعراق مصرّحاً بأن هذا المشروع لا يقلّ عن أن يكون حلم حياته وأنه كان يحلم به منذ بداياته كمهندس. وكان العمل التنفيذي يسير بكل هدوء وثقة حتى في منأى من التطورات السياسية في المنطقة. ولقد تركز العمل أول الأمر على البرج الرئيسي للجامعة الذي كان جزء كبير منه قد أُنجز حين قام الجيش العراقي بانقلاب 1958 تحت قيادة عبد الكريم قاسم. واللافت أن هذا الأخير حين فوتح بأمر استئناف العمل في تشييد الجامعة وافق متحمساً ووعد بتوفير الأموال والظروف اللازمة بل إنه طلب مقابلة غروبيوس والتحدث معه في ذلك الشأن. وسيقول غروبيوس إن الشكل الذي اتخذه اللقاء وسط حراس الزعيم لم يكن مطمئناً، لكن الزعيم نفسه وعد بتسوية كل المشاكل التي قد تعترض المشروع. وبالفعل وجد المعماري الكبير الذي كان يقترب حينها من عامه السبعين، يواصل العمل متنقلاً بين الولايات المتحدة وبغداد مشرفاً بنفسه على كل شاردة وواردة آملاً في أن يرى حلمه الجامعي ذاك مكتملاً قبل أن يعجز عن الحركة أو يرحل.
والتر غروبيوس في برلين (غيتي)
اغتيال قاسم يوقف المشروع
صحيح أن غروبيوس سوف يعيش سنوات أخرى، لكن المشكلة أن انقلاباً جديداً أطاح هذه المرة عبد الكريم قاسم وشارك فيه بعثي شاب يدعى صدام حسين سيسيطر على الحكم بعد سنوات، وسيكون كما تقول الحكاية التي رواها بنفسه من بين الذين قتلوا قاسم، ما وضع نهاية لمشروع غروبيوس. لقد كان هذا الأخير يحلم بأن يختم حياته بالجامعة البغدادية لتكون جزءاً من إعادة بناء العراق كله... لكن حلمه تحطم، صحيح أن غروبيوس وجد نفسه ينجز أعمالاً ضخمة أخرى قبل رحيله في صيف عام 1969 في بوسطن، ولكن ليس جامعة بغداد التي يبقى منها إلى اليوم مبان قليلة تشهد على اهتمام المصمم الألماني الأصل بأن تكون بغداد مقر "بوهاوسه" الجديد، هو الذي كان قد وضع في ذلك الحين تصميمات ورسوماً للبوهاوس القديم لكي يصار إلى تشييد مبنى لمحفوظاته في برلين بين 1976 و1979، من المؤسف أنها لا تفيدنا بشيئ عن حكاية جامعة بغداد!
ونعرف من ناحية مبدئية أن "البوهاوس" ليس سوى جامعة لدراسة المعمار والفنون. وهو بهذه الصفة يكاد يكون شبيهاً بعشرات الأماكن في طول أوروبا وعرضها. غير أن هذه الصورة لـ"البوهاوس" ليست سوى نتيجة للوقوف، في النظر إليه، عند سطح الأمور لا أكثر. فهذه المؤسسة الفنية كانت في ذلك الحين فريدة من نوعها، وتجلت عند تأسيسها كمكان يخفي خلف هندسته المعمارية روحاً حية لعبت دوراً كبيراً في بعث الفن الألماني. وبالتالي في مقاومة كل صنوف التعصب والجمود التي لئن انتصرت في ألمانيا، بفعل انتصار النازيين بعد ذلك، فإنها لم تتمكن أبداً من دحر روح التقدم والنزعة الإنسانية التي مثلها "البوهاوس"، ذلك الصرح الذي ارتبط اسمه باسم التيارات الفنية الحديثة والنهضة الفنية الكبرى التي عرفها العالم الغربي في ذلك الحين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روح رجل في روح المكان
حملت جامعة "البوهاوس" التي تأسست في جمهورية فايمار بألمانيا ربيع 1919، ثم انتقلت إلى ديساو، بعد انهيار الأخيرة، اعتباراً من 1923، منذ البداية روح وعقلية والتر غروبيوس الذي صمم مبنى "البوهاوس" ما جعل اسميهما لا ينفصلان البتة بعد ذلك، ما جعله الأب الروحي للنهضة الفنية الكبرى، وإلى حد كبير للنهضة السينمائية الألمانية التعبيرية التي لعبت هندسة الديكورات فيها دوراً أساسياً ("عيادة الدكتور كاليغاري" و"متروبوليس" على سبيل المثال). والحال أن غروبيوس كان، منذ لحظة تأسيس "البوهاوس" قد أصدر بياناً مهماً، اعتبر يومها تأسيسياً، صاغ فيه مبدأ وحدة الفنون، معلناً أن المعرفة والمهارة العملية عنصران أساسيان لا ينفصلان عن أي نشاط فني مهما كان سموه الروحي.
لعل في هذه النقطة الأساسية تكمن واحدة من مآثر غروبيوس الكبرى، التي جعلته لا يعتبر مجرد واحد من أكبر معماريي القرن العشرين، بل من أكبر منظري الفنون البصرية، من معمارية وغير معمارية. ومع هذا فإن المبدأ الأساسي للعمل في "البوهاوس" لم يكن قائماً، فحسب، على إعادة اكتشاف الوحدة بين العمل الفني والعمل الحرفي كما عبر عنها غروبيوس، بل على دعوة - وممارسة - هذا الأخير نزعة توسيع آفاق العملين عن طريق استخدام التقنيات وضروب التطور العلمي كافة التي يتيحها لنا العصر. باختصار كان غروبيوس، في "البوهاوس" وعبره، يدعو إلى دخول الفن في القرن العشرين واستفادته من كل إمكانات هذا القرن.
من هنا، حين رحل والتر غروبيوس عن عالمنا يوم الخامس من تموز (يوليو) 1969 اعتبر خسارة كبيرة لفنون القرن العشرين، ولذاكرة تلك الفنون، على الرغم من أنه كان في ذلك الحين يقترب حثيثاً من عامه التسعين وكان قد كف عن أن يكون أكثر من مجرد ذكرى.
لو أنجزت!
ولد والتر غروبيوس في 1883 وتلقى علومه في ميونيخ حيث أقام في 1918 "محترف فنون" كان الأساس الأول لمشروع "البوهاوس" الذي أسسه في العام التالي، بعدما عين مديراً لمدرسة الفن التطبيقي في فايمار. وعبر "البوهاوس"، كما أشرنا، مارس تأثيراً صارخاً على الفنون في أنحاء عديدة من البلاد. غير أنه، ومع الإشارات المبكرة إلى صعود النازية، اضطر للرحيل إلى الولايات المتحدة في 1928 مؤسساً مدرسة هارفارد المعمارية. ومنذ ذلك الحين عاش أغلب سنوات حياته في أميركا حيث حقق العديد من المآثر المعمارية ووضع الكثير من الكتب، وظل له مكانه المبجل في عالم فنون القرن العشرين على الدوام، ما جعل بغداد ذات لحظة انفتاح على العالم تتعاقد معه لبناء تلك التي كان من شأنها لو أُنجزت أن تكون واحدة من أعظم الصروج الجامعية في الشرق الأوسط.