بغداد – ناس
يطرح الروائي العراقي زهير كريم أحداثا مثيرة للشغف حول تجربة الإنسان في بحثه عن جوهر العالم، وتقلبات قناعاته، في محطاته المختلفة عبر الحياة، في روايته ”خيوط الزعفران“ الصادرة عن دار الآن موزعون وناشرون 2021.
وتحمل الرواية تجربة طويلة ومكثفة من الأفكار والتجاذبات، التي يمر بها المبحر في الفلسفة، والمتأمل لمجرى الواقع، وجاءت محملة باحتمالات متعددة من حيث الفكرة والتأويل.
ويعتمد البناء الروائي على شخصية يوسف الفنان الحالم المنفصل عن سكاكين الواقع في بلاده، لوقت طويل، ويشق حياته على طريقة الأبيقورية التي تقول: ”اللذة وحدها هي الخير الكامل، الإيروسية، ولذة الطعام، لذة الاشتعال بالفن بتحريض الرغبات الداخلية، أما الألم فهو الشر، وعلى الإنسان أن يتحرر من الألم بالهروب منه“، لكن الحياة توجه له لكماتها المتعددة، لينغمس في دواليبها، وينجر إلى اقتناء اكسسواراتها الصارخة.
لذة الاكتشاف
وتمر شخصية يوسف بالعديد من التقلبات الفكرية، التي في كل مرة تصنع أثرا على منحنى حياته، ويضع الكاتب في أداء البطل نسقا فلسفيا يقوم على“أن الإنسان يولد ويموت مرات عديدة، الطبيعة تفعل ذلك بدافع التجديد، أو دحر الملل وبعد كل ولادة، يتغير شيء ما، تولد نظرة جديدة إلى العالم، دهشة تضع روح الإنسان أمام لذة الاكتشاف“.
السرد عند كريم مشغول بحرفية، ومصنعية متقنة، فلا فراغات يمكن لمسها في الهيكل الروائي الذي قدمه، على الرغم من قفزاته المستمرة من قصة إلى أخرى داخل مذكراته السردية.
ولأن العقل البشري دومًا يبحث عن حدث يثير شغفه، فإن الروائي وعلى طريقة مقدم الأخبار، يقوم بوضع موجز للحدث الأهم في البداية، ومن ثم يسرد الوقائع بكامل حيثياتها، هذا هو مقص التشويق الذي شكل به كريم قصاصاته، ومقدمًا تكنيكًا سرديًا يفرض الشغف إلى معرفة تفاصيل حدث معلوم منذ البداية، وهو ما يحتاج إلى مهارة الكاتب المتمرس.
الشخصيات في جراب كريم مستمرة في الحركة، حتى بعد أن يسحبها من على خشبة العرض، فإنها تستمر في التغير. كما أن الزمن دائم في فرض إطاره في كل مشهد، فالسرد يقوم على استثارة الذاكرة واسترجاع مذكرات وأحداث من الماضي، بما يحمله من أجزاء تبعث الغصة للقارئ، ويمكن ملاحظة أنه لا شخصية داخل محور السرد إلا ومرت بتحولات فكرية، وتغيرات ذاتية، تبعًا للصراع العقلي بين كل شخصية منهم، وبين مشرط الجرّاح الذي تحمله الحياة.
هذا وينجح الروائي في إعطاء الدمى السردية تباينًا من خلال الأفكار والأساليب في معرفة جوهر العالم، ويصنع بينها الصراع اللازم بمحموله الفني الذي يحدث الفارق.
ديمقراطية السرد
كما يعطي لكل شخصية وعلى طريقة بوليفونية المساحة لطرح محتواها بشكل حيادي، من خلال تشكيلة سردية تقوم على الحوار الداخلي، بين الشخصية وذاتها، وكذلك الحوار بين الشخصيات بشكل تفاعلي، ويقدم مداخلات الراوي، بتعليقات تعمل على شبك الخيوط السردية، وتحقيق أثرها، ويقدم كريم ذلك كله من خلال لغة شاعرية محتضِنة تواكب سرده، دون إرهاق أو تعمد تكلف، قسمها على عدة فصول بعناوين متعددة، وامتدت على 200 صفحة من القطع المتوسط.
حافلة نحو المجهول
ويضع الكاتب انخراط حليمة في أحزانها، كرمز للمرأة المحاصرة بتابوهات الواقع، ونفور عاطفتها تجاه يوسف الذي لم يحبها، فبقي حلمها الذي لامسته لليلة واحدة، وفقدته بقية العمر، فأنجبت منه زينب ورقية، وفارقت الحياة بشيزروفينيا قادتها إلى الموت، ولم تنجح أيقونتها، نبتة الزعفران في جلب يوسف لها للأبد.
يكتب كريم عنها: ”وقد انتظرت حليمة -كما أعتقد- لحظة لن تجيء، أو أنها لم تكن تنتظر شيئًا، لكنها في لحظة قفزت إلى (باص) لا تعرف إلى أين ذاهب، وهكذا ضاعت في الفراغ الواسع، ولم تعرف فيما بعد كيف تعود“.
مواطن مسحوق
وتأتي انطلاقة الروائي من عتبة الواقع العراقي المحزن، كعتبة مكانية مؤثرة على السرد، فيقدم قناعة المواطن المنغمس بجراحه وتجاربه القاتمة، وانسداد الأفق بينه وبين الحياة.
يكتب: ”أظنه سيعود إلى غربته ولن يفكر في العودة ثانية إلى هنا أبدا، وهذا بالطبع أحسن ما يفعله، البلد لا تصلح لعيش البشر ولا الحشرات، لا تناسب الزواحف ولا البغال، ولا نبات العاقول حتى، بلد مثل فرن في مناخه، ومعرض جثث في واقعه، ويوسف من أصحاب الحظوظ (المصخمة)، الأفضل أن يعود قبل ان يتلوث عقله، الشوارع مليئة بالمجانين، أنا، أنت والجميع يقفون في الدور كلنا بانتظار مصيرنا السيئ، هذا البلد فخ ولا ينفع حتى الحذر الشديد، لكي ينجو المرء منه“.
جيتار مكسور
يلمح الروائي إلى تحولات الإنسان الفكرية، وأثرها على شخصيته، ومسار حياته، إذ يصنع من الحسن قيثارة لمساحة الصراع، نقلته من عازف وفنان مرهف إلى قائد تنظيم متشدد، مهنته إصدار الأوامر بقتل أخيه الإنسان، وبدلا من ”أن يعيش حر التفكير خارج كل الأقفاص الفكرية“، حبس نفسه في خانة القاتل.
نارفين
وينقل الروائي مأساة العربي والكردي، من خلال علاقة يوسف بنارفين المرأة الكردية التي أحبها، متناولا المحاصرة لكل منهما في إطار القناعات الفكرية، وما تفرضه من جرم وإلغاء للهوية الأساسية للإنسان، فالعشق بينهما قهره الواقع، وأحاله إلى غبار، ليكون اللقاء بينهما بعد السنين لحظة هزيمة لكليهما، وقد أرهقها التهاب المفاصل في جسدها وفي حياتها. وقد كان لسان حال يوسف: ”الزمن لا يترك أحلامنا في مكان آمن“.
يكتب كريم: ”كان جسدها مضطربًا، وقد استعادت شريط غرامها كما لو أنها تقول إن الخسارات تستحق أن نبتسم لها في النهاية. لم تكن قادرة على النهوض وقد أدرك يوسف الأمر، لكنه كان في غمرة الفرح باللقاء، تقدم إليها وشعرت نارفين بالخجل لأنها لن تستطيع منح هذا اللقاء التقدير الكافي الذي يستحقه، شعرت أنها محبوسة في هذا العجز الذي أورثها قدمين لا يمكنهما حمل الجسد“.
المصدر: إرم نيوز