دفعت الأزمة النقدية اللبنانية الحكومة باتجاه دراسة آلية خفض الفاتورة النفطية من خلال استقدام النفط الخام من العراق عبر شركة تسويق النفط "سومو" وتكريره في لبنان، الأمر الذي طرح تساؤلات حول تكلفة الاستجرار وإمكانية التكرير، والفترة التي يتطلبها المشروع ليصبح جاهزاً، بالتزامن مع انتهاء العقد الموقع مع شركة "سوناطراك" الجزائرية نهاية العام الحالي، ما يهدد البلاد بالدخول في عتمة شاملة.
وقبل الحرب الأهلية اللبنانية كان العراق يعتمد في تصديره النفط على أنبوب ممتد من كركوك إلى طرابلس، إذ كان الهدف حينها إيصاله بأسرع طريقة إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، لكن أسباباً سياسية أدت لاحقاً إلى توقف تدفق النفط العراقي إلى لبنان، لتعود ملكية مصفاة طرابلس إلى الدولة اللبنانية بعد أن أصبحت خارج الخدمة وعديمة الجدوى.
وحول إمكانية إعادة إحياء هذا الأنبوب، تشير مصادر في وزارة الطاقة اللبنانية إلى أنه يمكن إجراء عمليات صيانة بسيطة وتفعيله من جديد "إلا أن المصفاة لا تعمل وهي غير مستوفية الشروط، وبالتالي لن تكون قادرة على معالجة النفط الخام".
وتقول إنه في حال تم الاتفاق على آلية "مقايضة" مع العراق "باستطاعة لبنان تكرير النفط في مصر أو رومانيا أو إيطاليا أو إسبانيا، القريبة نسبياً من لبنان"، فإن المعضلة تكمن في الشحن، إذ على الحكومة استئجار بواخر لنقل النفط الخام إلى نقطة التكرير، و"احتمال حصول هدر مرتفع جداً في مثل هذه العمليات".
استنزاف العملات الأجنبية
وتقول مصادر في وزارة الطاقة إن قضية المحروقات مؤجلة بانتظار انتهاء المفاوضات مع الجانب العراقي، مشيرة إلى أن "المسألة تسير بالاتجاه الإيجابي في ظل حماسة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لدعم لبنان، إلا أن الأخير يعمد حالياً إلى إجراء الترتيبات اللازمة لمنع أي اعتراض داخلي على الصفقة". وتضيف أن "لبنان قد يتواصل مع عدد من الشركات العراقية العاملة في تكرير النفط للاتفاق معها على تسليمها النفط الخام مباشرة، على أن تقوم بإرساله إلى لبنان بعد تكريره"، معتبرة أن هذا الخيار يضمن وقف استنزاف العملات الأجنبية بشكل كبير، كون الاتفاق يقضي بتأجيل الدفع لمدة عام.
العراق أولاً
في مقابل التفاؤل اللبناني يبدو الأمر مختلفاً لدى الجانب العراقي، إذ رفض المسؤولون في وزارة النفط التعليق على مصير المفاوضات، مؤكدين أن "لبنان اقترح بداية الصيف الماضي تزويده بالنفط الخام مقابل منتجات زراعية"، لكن مصدراً مسؤولاً في الوزارة، رفض الكشف عن اسمه، قال إن توجه العراق حالياً هو البيع المسبق وليس بالأجل، بهدف معالجة الأزمة المالية التي تعيشها البلاد، نتيجة تفشي فيروس كورونا، على أن تصدر بعد ذلك الشحنات المتفق عليها، المتوجهة غالباً إلى شركات صينية.
ويضيف أن "المفاوضات مع لبنان كانت في الصيف الماضي والآن الوضع تغير، فهو غير قادر على التسديد الفوري، ما يجعل تصدير النفط إليه صعباً جداً إن لم يكن مستحيلاً".
وفي شأن مواقف مسؤولين عراقيين ولبنانيين، يوضح المصدر أن "التصريحات الدبلوماسية شيء، والواقع شيء آخر. كما أن بغداد تركز على الشراكة مع الأردن ومصر وإمكانية إنشاء مصافي تكرير مشتركة".
ويشير المصدر إلى سبب آخر يمنع تصدير النفط إلى لبنان، وهو التزام العراق باتفاق "أوبك" لتخفيض الإنتاج، و"ما تبرع به عند انفجار مرفأ بيروت كان هبات لا تدخل ضمن الإنتاج، وهي كمية قليلة مقارنة باحتياجات لبنان الدائمة".
المصافي والإفلاس
تكشف المستشارة القانونية في شؤون الطاقة كريستينا أبي حيدر عن وجود مشكلتين أساسيتين في أي علاقة نفطية مع العراق، الأولى مرتبطة بالوضع الاقتصادي الصعب الذي يعانيه العراق ما يدفعه باتجاه التركيز على اتفاقيات مربحة، كون تصدير النفط هو العمود الفقري لاقتصاده، وفي حال وافق على منح لبنان ستة أشهر لتسديد ثمن النفط "هل لدينا القدرة على التسديد في ذلك الحين، ولبنان دولة مفلسة؟".
والمشكلة الثانية ترتبط بعدم جهوزية البنية التحتية اللبنانية، متسائلة "كيف سيتعامل لبنان مع النفط الخام في ظل عدم وجود مصافي تكرير؟"، مستبعدة أن يتمكن من الاتفاق مع شركة تعطي بدورها فترة سماح ستة أشهر قبل التسديد.
واعتبرت أبي حيدر أن الكلام عن تأهيل محطات التكرير الموجودة في لبنان غير واقعي، انطلاقاً من عدم قدرته على تأمين تكاليف إعادة تشغيلها والفترة الزمنية التي يستغرقها هذا التأهيل، موضحة أن "هذا المسار يوصلنا إلى القول إن الهدف الأساسي لدى الحكومة ووزارة الطاقة هو العقد الفوري spot cargo، وهنا أيضاً نعود مجدداً إلى السؤال: من أين سيتوفر الدولار لشراء هذا الفيول؟"، مشيرة إلى أن "هذا النوع من العقود أغلى من العقود السنوية، ولا ضمانة فيها لجودة النفط".
انفجار قريب
وقالت إن الأزمة ستنفجر قريباً في وجه اللبنانيين "وستكون على عدة مستويات، على اعتبار أن قطاع الكهرباء ينعكس على جميع القطاعات الحيوية، من صحة إلى تعليم وصولاً إلى الصناعة"، مشيرة إلى أنه لا يمكن أن "نعول على أي دعم خارجي للحيلولة دون الأزمة"، مذكرة بأن كل الجهات المانحة تحدثت عن أهمية الإصلاح في قطاع الكهرباء قبل الحصول على أي مساعدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير إلى أن "لبنان يستورد من شركة (سوناطراك) الجزائرية أكثر من 60 في المئة من حاجة معامل إنتاج الكهرباء، والأزمة تفاقمت مع قضية الفيول غير المطابق التي دفعت الشركة إلى إبلاغ الدولة اللبنانية رسمياً رغبتها بعدم تجديد العقد (نهاية الشهر الحالي)".
وشددت على أن "الدولة اللبنانية على علم بقرار الشركة منذ ستة أشهر، لكنها لم تتحرك باتجاه إجراء مناقصة شفافة لشراء الفيول"، مستغربة محاولة رمي الكرة على إدارة المناقصات تحت حجة مراجعة دفتر الشروط "فلو وضعته الوزارة منذ ذلك الحين لما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم".
التهرب من المناقصات
وفي السياق ذاته، أكد رئيس إدارة المناقصات جان العلية أن لا نية جدية لدى وزارة الطاقة لإجراء مناقصة إلا إذا تمكنت من الضغط على إدارة المناقصات لتمرير دفتر شروط مرن ومتحرك وتعجيزي، بحيث يمكنها من خلاله التحكم بالمشاركين في المناقصة، وهذا الأمر لن يمر.
ورجح العلية أن يكون الحل الذي تنوي وزارة الطاقة اللجوء إليه في المرحلة المقبلة الطلب قانوناً من "سوناطراك" الاستمرار في تأمين الوقود لمصلحة مؤسسة كهرباء لبنان كي لا تغرق البلاد في العتمة، أو اللجوء إلى البواخر الجاهزة في البحر، وفي هذه الخطوة تهرب من دفتر الشروط وإجراء المناقصات بحيث لا أحد يعلم نوعية المادة ولا مصدرها.
التهرب من الـ45 ملياراً
من ناحيته، يوضح مصدر مسؤول في شركة "سوناطراك" أنه بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء عام 2005، قررت الحكومة اللبنانية التوجه إلى الدول الصديقة لتلبية حاجات مؤسسة الكهرباء من خلال عقود طويلة الأجل من دولة إلى دولة "وتم الاتفاق حينها مع الكويت بواسطة شركة (كويت بتروليوم) والجزائر بواسطة شركة (سوناطراك)، وقد أمنت هذه العقود الانتظام في عمليات توريد حاجات المؤسسة من المحروقات بسبب التسهيلات المالية المتاحة، كما أمنت تعديل الأسعار سنوياً بما يتناسب مع تقلب الأسواق العالمية".
ولفت إلى أنه من أبرز أسباب استهداف العقد مع "سوناطراك" هو التهرب من مسؤولية خسارة 45 مليار دولار في قطاع الكهرباء خلال السنوات العشر الأخيرة.
ويؤكد أن الشركة لن تعمل يوماً واحداً مع لبنان بعد انتهاء المدة القانونية للعقد، وأن استمرارية المرفق العام هي مسؤولية الدولة وليس الشركة "لا سيما أننا أبلغنا الدولة منذ أكثر من ستة أشهر بالقرار، وعدم العثور على بديل هو تقصير منها، بالإضافة إلى غياب الحماسة لدى الشركات العالمية للتعاون مع لبنان".
في المقابل، نفى وزير الطاقة والمياه في حكومة تصريف الأعمال ريمون غجر ما يتم تداوله عن سقوط لبنان في العتمة الكهربائية، وقال في بيان له إنه "لن تكون هناك عتمة في لبنان"، كاشفاً عن أن هناك أربعة حلول على الأقل لموضوع الفيول، يتم بحثها حالياً.