100 عام مرت على تأسيس الجيش العراقي، أقدم جيوش الشرق الأوسط في العصر الحديث. خرج من رحم الحرب العالمية الأولى وصراع الأضداد إبان تنامي الاستعمار البريطاني، الذي زحف ثلاث سنوات نحو العراق (1914- 1917)، محملاً بأحدث الأسلحة حينها ليقوض دولة "الرجل المريض".
تداعت الدولة العثمانية أمام الآلة الحربية التي استخدمها الإنجليز وهم يدخلون الخليج العربي من بوابة البصرة، أقصى الجنوب العراقي، عام 1914، لكنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى بغداد إلا عام 1920 ليعلنوا أنهم "محررون وليسوا فاتحين" على لسان الجنرال مود، الذي احتل العاصمة ليموت ويدفن فيها.
قصة البداية
قصة تأسيس الجيش العراقي بدأت من خريجي المدرسة الحربية في إسطنبول، التي كانت تقود الولايات العراقية الثلاث البصرة والموصل وبغداد، حيث دربت مئات من أبناء القبائل ومنحتهم خبرة الحرب. لكن سرعان ما انقلبوا عليها وشرعوا بتحرير وطنهم، حتى انهارت الدول العثمانية مطلع القرن الماضي ونال العراق بفضل استقلاله الجيش الذي قاوم الاحتلال الإنجليزي في ما بعد بقيادة نوري باشا السعيد ومساعديه جعفر العسكري وياسين الهاشمي، ليردد شعب العراق نشيده الأثير "الجيش سور للوطن يحميه أيام المحن".
كان تأسيس الجيش العراقي في 6 يناير (كانون الثاني) 1921 مغامرة وطنية، بعدما ترك الأتراك بغداد تحت ضربات الإنجليز وبلا جنود محليين.
وكان الجيش الإنجليزي القادم من الهند يتولى مع وزارة المستعمرات البريطانية الجانب العسكري وسط محيط معاد لهم، توج بثورة العشرين حين ثار عليهم رجال القبائل العراقيين بعدما شعروا بأن استعماراً عثمانياً قد أفل واستبدل بآخر بريطاني يسعى إلى السيطرة المباشرة، بدءاً من تعيين المستشار السياسي لوزارة المستعمرات برسي كوكس مندوباً سامياً يوشك أن يحكم البلاد بذريعة التحرير لا الاحتلال، كما أعلن الجنرال مود الذي رافق تلك الحملة العسكرية.
أدرك حينها العراقيون ضرورة التصدي للواقع الجديد وانخرطوا في أول تشكيل للجيش، وكان يتولى قيادة أولى أفواجه الضابط العراقي جعفر العسكري الذي رافق أول وزارة عراقية تذهب إلى القاهرة للتوقيع مع وزير المستعمرات السير ونستون تشرشل على اتفاق إعلان المملكة العراقية التي ترأسها السيد عبد الرحمن النقيب، أول رئيس للوزراء في العراق الحديث، ليبرق للملك فيصل بن الشريف حسين المنسحب من عرش سوريا أن بريطانيا وافقت على تأسيس الجيش العراقي.
في ما بعد تولى مهندس وعراب السياسة العراقية منذ العشرينيات باشا نوري السعيد الجانب العملي للتأسيس، معتمداً على ضباط عراقيين انتسبوا إلى الجيش العثماني وتدربوا في المدارس الحربية في إسطنبول بشراكة الجيش العربي الحجازي، الذي ثار على البريطانيين بزعامة الشريف حسين بن علي، والد فيصل وعبدالله ملكي العراق والشام في ما بعد.
فيصل ملكاً على العراق
اعتمد ملك العراق فيصل الأول، الذي أمضى أشهراً معدودة ملكاً على سوريا، قبيل دخول الجيش الفرنسي إليها، على نواة قيادة الجيش الجديد. وقد تمركزت وزارة الدفاع في قصر الوجيه البغدادي عبد القادر باشا الخضيري، في محلة السنك، وهي لا تزال قائمة إلى اليوم بإطلالتها على نهر دجلة، كما يقول المؤرخ طارق حرب.
تناوبت على إدارة الوزارة شخصيتان محوريتان من بين رجالات العهد الملكي، أسهمتا في صناعة تاريخ البلاد الحديث، هما جعفر العسكري وقريبه نوري باشا السعيد، وكلاهما من خريجي المدارس الحربية العثمانية، ثم أكملا دراستهما في "ساند هيرست" البريطانية، ليضعا الجيش العراقي على قواعد الإنشاء الصحيح في الوحدات والرتب والتقاليد العسكرية، مع عقيدة سعت إلى ربطه بمحيطه العربي.
إدارة الجيش الجديد وتشكيلاته
تم تشكيل دوائر عدة في الوزارة تشمل الحركات والإدارة والميرة والحسابات والطبابة العسكرية، وصدر قانون خاص بالجيش ينظم الخدمة العسكرية والجرائم والعقوبات والمحاكم لهم، وكانت الخدمة اختيارية غير إلزامية، حتى عام 1935.
وتكشف السجلات أنه "بانتهاء سنة التأسيس عام 1921، أصبح عدد الجيش العراقي 111 ضابطاً و2505 من ضباط الصف والجنود"، كما يؤكد حرب. وقد عملت قيادة الجيش على تعريب الرتب والمسميات العسكرية تماماً. وأعادت التشكيلات العربية الموجودة في الدول العثمانية إلى البلاد وألحقتها بالخدمة الوطنية وكانت مهمة شاقة.
وقد أفاد الضباط الإنجليز الكبار الذين عملوا في وزارة الدفاع بتدريب الجيش الناشئ وتزويده بالخبرات الحديثة، التي تميزت بها التجربة البريطانية العريقة، فتفوق عدد كبير من ضباط الجيش العراقي الذين تخرجوا من "ساند هيرست"، أهم كلية حربية في العالم.
وعينت بريطانيا مفتشاً عاماً للجيش العراقي للسيطرة على طموحاته، لكن التدريب لم يكن يرضي بالكامل الطموحات العراقية، فقد شرعت الحكومة بزيادة تشكيلاته وتنويع صنوفه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في بداية تأسيسه، رفضت بريطانيا نوايا التوسع العراقية وفضلت اقتصار تشكيلات الجيش على وحدات الأمن الداخلي والاستغناء عن المدفعية والقوة الجوية والبحرية، ما اضطر العراق إلى إنشاء ثلاثة مراكز تدريب لتعليم الاختصاصات الجديدة التي من شأنها تطوير كفاءة الجيش وقدراته.
كانت الأحداث تتسارع في العراق الغاضب على استبدال استعمار عثماني بآخر بريطاني، يسعى للبقاء والسيطرة وفرص قوانين وزارة المستعمرات، لا سيما قانون العشائر المأخوذ من التجربة الهندية. في حين كانت البلاد تسعى للمضي نحو العصرنة والاستقلال وتأسيس الأحزاب والجمعيات التي تنادي علناً بذلك.
وشهدت السنوات العشر (1920-1930) صراعاً مريراً حتى اتفاقية عام 1930 بين بريطانيا والعراق، التي حلت محل معاهدة 1922 التي فرضت الانتداب آنذاك وحولت المندوب السامي إلى مستشار للسياسة الخارجية وحماية المواصلات البريطانية ودخول العراق عصبة الأمم.
تقول وثائق الجيش العراقي إنه كان يضم 459 ضابطاً و9322 جندياً وإن مجموع الأسلحة التي كان يملكها، حتى عام 1930، لا توازي ملاك فرقة مشاة بريطانية.
تحديات الواقع
على الرغم من التأسيس الشكلي للقوة الجوية العراقية عام 1927، وأهميتها في حسم المعارك، عمدت إلى إنشاء بعض الأسراب من التشكيلات بإرسال بعثات إلى الخارج ليكون أفرادها النواة التي تصاعدت بحذر، مع تأسيس أخرى لأسطول نهري عام 1937 من بعض البواخر الهندية والزوارق الصغيرة.
لكن هذا التأسيس الحذر للقوات العراقية تغير بالكامل بعيد تغيير النظام الملكي وتأسيس النظام الجمهوري عام 1958، إثر تولي حركة الضباط الأحرار مقاليد الحكم. فقد عمدوا إلى تنويع مصادر استيراد الأسلحة، لا سيما من الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، التي وجدت في العراق سوقاً لتصدير الأسلحة وعقد معاهدات واتفاقات الصداقة التي استنزفت ميزانية البلاد وحولتها إلى ترسانة أسلحة.
وقد أرسلت الدول الاشتراكية آلاف الخبراء والمتخصصين للتدريب والإشراف، ما فرض تزايد أعداد العسكر وتعدد الصنوف، حتى صار العراق المستورد الرئيس للسلاح في الشرق الأوسط بعد تأميم النفط وزيادة عائداته بعد عام 1972.
هيمنة العسكرتاريا
تطورت الصنوف بحكم تنامي القدرات العسكرية والخبرات الدولية، وتحول المجتمع رويداً رويداً إلى العسكرتاريا التي تحكم دولة بقوانين مدنية. وكانت شراهة التسلح وكأن البلاد تعد نفسها لحرب وشيكة، فقد تطورت القوة الجوية وسلاح الدبابات حتى وصلت مطلع عام 2003 إلى 6 آلاف دبابة روسية. وبدأت القوة البحرية هي الأخرى بدخول سباق التسلح، فحصل العراق على العديد من الزوارق والسفن الحربية.
فاقت ميزانية التسلح كل التصورات لتصل إلى أكثر من 50 في المئة من الميزانية العامة، وليصل الجيش خلال حقبة الثمانينيات إلى القوة العالمية السادسة، وهو يخوض الحرب مع إيران لثماني سنوات عجاف.
ثلاث أزمات
ثلاث أزمات حكمت تاريخ الجيش العراقي وقياداته التي خاضت حروباً مستمرة، أولها، أنه لم يكن مستقلاً عن الإدارة السياسية، يأتمر بأمر القائد العام للقوات المسلحة الذي هو الملك أو الرئيس الفعلي للبلاد، أي أن إعلان الحرب أو استخدام الجيش بيده.
ثانياً، كثرة الانقلابات التي شهدتها البلاد التي وجدت نفسها في أول انقلاب في تاريخ العالم العربي عام 1936 على يد الفريق بكر صدقي، الذي اغتال وزير الدفاع وقلب الحكم مع أتباعه.
وثالثاً، كان الجيش العراقي أول جيش عربي يفكك بقوة احتلال أجنبي عام 2003، لتتحول البلاد إلى قيادات ميليشياوية تمنح الرتب العسكرية لغاية فريق بمسمى "الدمج"، وحولت الجيش نحو إدارتها العقائدية المرتبطة بإيران لتتحكم بالقرار العسكري في الدفاع والداخلية، وليدفع العراق ضريبة الفوضى التي تسبب بها الحاكم المدني الأميركي بول بريمر الذي تسلم قرار حكم البلاد إبان حقبة الاحتلال. والمفارقة أنه صرح أكثر من مرة بأن قرار حل الجيش جاء نتيجة مطالب عراقية من بعض القوى الشريكة في العملية السياسية، ما تسبب بضياع تاريخ أحد أهم الجيوش العربية وإرادته.