مع تبادل الاتهامات والتحذيرات الرسمية بين طهران وواشنطن وبينهما دمشق حيث "ساحة المواجهة" الأخيرة، بشأن أول عمل عسكري "معلن" تقوم به إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن صباح أمس الجمعة، ضد "ميليشيات مدعومة من إيران" في سوريا، تتباين آراء المراقبين حول مستقبل تصاعد التوترات بين الخصمين اللدودين واحتمالات الانزلاق إلى أتون مواجهة كبيرة في المنطقة.
وفيما اعتبر مسؤولون في البيت الأبيض أن الهجمات التي أسفرت عن مقتل 22 مسلحاً على الأقل، جاءت كـ"ردّ محسوب" على هجمات صاروخية استهدفت أميركيين في العراق، وبطريقة "محدودة النطاق ومُعدّة بعناية شديدة" لإظهار أن إدارة بايدن ستتصرف بحزم تجاه "الاستفزازت الإيرانية"، يتساءل المعنيون بشأن الرسائل "المبطنة" التي أرادت واشنطن إرسالها إلى طهران، في وقت يبحث البلدان عن أقصى حد من النفوذ أثناء محاولات العودة إلى الاتفاق النووي، الذي أُبرم في 2015 وانسحب منه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في 2018، في خطوة أشعلت توترات إقليمية وتزايدت في أعقابها المخاوف من اندلاع صراع شامل.
واستهدفت الضربات الأميركية الأخيرة مواقع جماعة "كتائب حزب الله" القوية على الجانب السوري من الحدود مع العراق، حيث تسيطر الجماعة المدعومة من طهران على معبر مهم للأسلحة والأفراد والبضائع. ويتهم مسؤولون غربيون وبعض نظرائهم العراقيين تلك "الميليشيات" بالتورط في هجمات صاروخية دامية استهدفت مواقع وأفراداً أميركيين في العراق الشهر الماضي.
تفاصيل الضربة
بحسب بيان وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وتصريحات المتحدث باسمها جون كيربي، فإن الهجمات كانت "دفاعية"، ودمرت "بنى تحتية عدة ومنشآت تقع في نقطة حدودية تستخدمها ميليشيات مدعومة من إيران شرق سوريا"، مسمّياً "كتائب حزب الله" و"كتائب سيد الشهداء"، وهما فصيلان منضويان في صفوف الحشد الشعبي العراقي.
وقال كيربي إن القوات الأميركية نفذت الضربات الجوية بتوجيهات من بايدن، معتبراً أن الإدارة الجديدة ستعمل على "حماية جنودها وجنود التحالف. في الوقت ذاته، نتحرك بحساب لتجنّب تصعيد الوضع العام في كل من شرق سوريا والعراق".
وتخضع المنطقة الممتدة بين مدينتي البوكمال والميادين في ريف دير الزور الشرقي لنفوذ إيراني، عبر مجموعات موالية لها تقاتل إلى جانب قوات النظام السوري. وغالباً ما تتعرّض شاحنات تنقل أسلحة وذخائر أو مستودعات في المنطقة لضربات تُنسب إلى إسرائيل، التي تؤكد عزمها إنهاء "التموضع الإيراني" في سوريا.
من جانبها، نقلت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عن مسؤولين في إدارة بايدن قولهم إن الضربات الأخيرة هي رد فعل "صغير للغاية" تمثّل في "إلقاء قنبلة واحدة على مجموعة من المباني على الحدود السورية العراقية تستخدم لعبور مقاتلي الميليشيات والأسلحة داخل البلاد وخارجها"، موضحين أن الضربات وجّهت في سوريا "لتفادي رد فعل دبلوماسي من قبل الحكومة العراقية".
وبحسب المسؤولين، عرض البنتاغون مجموعات أكبر من الأهداف يمكن قصفها، لكن الرئيس الأميركي أعطى الضوء الأخضر لتنفيذ "أصغر" هذه الأهداف، في مؤشر إلى أن يكون "رداً مدروساً على الهجوم الصاروخي في أربيل"، مضيفين أن قرار توجيه هذه الضربات يهدف إلى إرسال إشارة بأن الولايات المتحدة تريد معاقبة الجماعات المتشددة لكنها لا تريد أن ينزلق الوضع إلى صراع أكبر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جانبها، رأت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية أن الهجوم الأخير يُنظر إليه على أنه "اختبار مبكر للسياسة الخارجية لبايدن، لا سيما أن الرئيس الأميركي الجديد يسعى إلى إعادة ضبط سياسة بلاده في الشرق الأوسط"، مضيفة، "بالرغم من المساعي الأميركية لإعادة التواصل مع إيران بشأن الاتفاق النووي، لكنها أيضاً لا تريد أن ينظر إليها على أنها تتساهل مع طهران بأكثر من المطلوب، بخاصة أن النظام الحاكم هناك متهم بارتكاب جرائم عدة وإذكاء التوترات في المنطقة من خلال دعم مجموعات الميليشيات"، معتبرة أن الهجوم الأخير على أربيل الذي استهدف قاعدة أميركية، كان مؤشراً إلى استخدام طهران لوكلائها لاختبار ما ستكون عليه "الخطوط الحمراء" مع إدارة بايدن والضغط على واشنطن قبل أي تحركات نحو استئناف المفاوضات بشأن الاتفاق النووي.
وقبل أسابيع، تصاعدت الهجمات على أهداف أميركية في العراق، وكان أخطرها قتل متعاقد غير أميركي في قاعدة أميركية مقرها مطار أربيل الدولي بشمال البلاد الذي يديره الأكراد في 15 فبراير (شباط). وبعد أيام من الحادثة، أُطلقت صواريخ على قاعدة تستضيف قوات أميركية وبالقرب من سفارة الولايات المتحدة في بغداد.
وفيما لم يتضح بعد ما إذا كان الرد سيؤثر في الجهود الرامية لإعادة إيران إلى الامتثال للاتفاق النووي، إلا أن بايدن قال أمس الجمعة إن الضربات الجوية الأميركية في شرق سوريا يجب أن تنظر إليها طهران على أنها "تحذير"، موجّهاً إنذاره لها بأنها "لن تفلت من العقاب".
أي رسائل بعثتها واشنطن لطهران؟
وفق مراقبين تحدثت إليهم "اندبندنت عربية"، فإن الرسائل "المبطنة" من الهجوم الأخير ضد أهداف إيرانية تعكس "رسائل تحذيرية" من الجانب الأميركي حول مستقبل التعاطي مع ملفَّي طهران الرئيسَين "النووي وأنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة"، معتبرين في الوقت ذاته أن إدارة بايدن أرادت توصيل رسالة إلى النظام الإيراني بأنها "لن تغض الطرف عن هجمات الميليشيات المدعومة منها أو من وكلائها".
ويرى بهنام بن طالبلو، الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (مؤسسة بحثية في واشنطن)، أن الوقت سيحدد ما إذا كانت طهران قد استوعبت الرسائل الأميركية، معتبراً أن "قرار إدارة بايدن بالردّ عسكرياً واقتصاره على الساحة السورية مدفوع إلى حد كبير بعوامل عدة، بينها معاقبة الميليشيات المدعومة من إيران وردعها عن توجيه ضربات مستقبلية لأهداف أميركية، وكذلك إظهار الحزم والصرامة في التعامل مع الاستفزازات الإيرانية، فضلاً عن القدرة على إنجاز هذين الهدفين من دون التأثير سلباً في السياسة الداخلية بالعراق".
وبحسب طالبلو، "على الرغم من أهمية الرد الأميركي الأول وإظهار القوة ضد الميليشيات الموالية لإيران، فإن محدوديته وتركيزه يعكسان أن باب الخيارات الدبلوماسية لا يزال مفتوحاً".
بدوره، أعرب محمد المنشاوي، الباحث المتخصص في الشؤون الأميركية ومؤلف كتاب "ترمب أولاً: كيف يغيّر الرئيس أميركا والعالم"، عن اعتقاده بوجود مفاوضات خلف الأبواب المغلقة بين واشنطن وطهران عن طريق أطراف ثالثة (أوروبية أو سلطنة عمان) في ما يتعلق بالقضايا الخلافية ومساعي تهدئة التوترات في المنطقة، مرجّحاً أن "الضربة الجوية هي جزء من التفاوض غير المباشر، كما كانت حادثة استهداف القاعدة الأميركية في أربيل من قبل ميليشيات مدعومة من إيران قبل 10 أيام".
وتوقّع المنشاوي أن "الطرفين يتمسكان بعدم المضي قدماً باتجاه الخطوة التصالحية الجادة، أولاً لحسابات تتعلق بالداخل الإيراني أو الداخل الأميركي، فضلاً عن أن هناك رغبة جادة من الطرفين في التفاوض المباشر والعودة إلى اتفاق نووي سواء القديم أو تعديله".
في المقابل، وبحسب ساشا توبريتش، نائب الرئيس التنفيذي الأول لـ"شبكة القيادة عبر الأطلسي"، "أرادت الولايات المتحدة إظهار أنها لن تتسامح مع أي استفزازات أو أنشطة مزعزعة للاستقرار تقدم عليها إيران في المنطقة، لا سيما في العراق وسوريا"، مضيفاً، "قد تتضاءل فرص الخيارات الدبلوماسية لإعادة التفاوض على الاتفاق النووي الإيراني الذي يبديه الطرفان، حال مواصلة الميليشيات المدعومة من طهران هجماتها ضد الأهداف الأميركية".