المعلومة/بغداد..
رد رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، الخميس، على مقالة نشرها مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط السابق ديفيد شنكر، مؤكدا أن عدم انسحاب القوات الأميركية هو بالضد من مصالح العراق.
وفيما يلي نص رد عبد المهدي:
كتب السيد ديفيد شنكر مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط السابق في ” ذي هيل” مقالا بتاريخ 11 آذار 2021 بعنوان “سيبقى وجودنا في العراق ذا أهمية للمصلحة الوطنية الامريكية”، مؤكداً فيه “إن مغادرة القوات الامريكية معناه تسليم بغداد كلياً إلى طهران”.
وفي هذه المقالة أورد السيد ديفيد شنكر اسم السيدرئيس الوزراء السابق السيد عادل عبد المهدي مرات عديدة، وتوصل لاستنتاجه الخاطىء القائم بدوره على مقدمات غير صحيحة.
سنتناول نقطتين أساسيتين. تتعلق الأولى بأن البلاد ستسقط بيد إيران إن انسحبت القوات الأمريكية، والثانية إن تصويت البرلمان العراقي في 5/1/2021حول الانسحاب هو قرار “غير ملزم”.
1- الكلام عن أن العراق سيسقط بيد إيران إن انسحبت القوات الأجنبية فيه إشكالات كثيرة. أنه يشير إلى أن وجود القوات يخالف الأساس الذي دعيت من أجله، وهو محاربة داعش،وتدريب القوات العراقية، ولا شيء آخر.
فكلامه يحمل فهماً وسياسة سبق للرئيس “ترامب” أن صرح بها إلى محطة “سي بي أس” في 3 شباط 2019 قائلاً نقلاً عن “البي بي سي” إن القوات الأمريكية ستنتقل (من سوريا) إلى قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار ،وسيكون ضمن مهامها مساعدة إسرائيل في مراقبة إيران.
هذا التصريح قاد لردود فعل شديدة عراقية ،وغير عراقية، ولقد أكد العراق مراراً ،وتكراراً، وبشكل رسمي بأن مهمة القوات هي محاربة داعش ،وتدريب القوات حصراً، وبخلافه سيعتبر انحرافاً عن مهامها.
إيران دولة كبيرة من دول المنطقة، ولعبت تاريخياً هي وتركيا ومصر والسعودية والعراق وسوريا ادواراً اقليمية مهمة – بغض النظر عن النظم الحاكمة فيها-. ففي التاريخ المعاصر كانت إيران مرتكزاً أساسياً لحلف بغداد “السينتو” في الخمسينيات، ولعبت دوراً في العراق بالتعاون مع المخابرات الأمريكية والموساد يومها لمواجهة المد الناصري، كما كان لها حضور عسكري، ناهيك عن الاقتصادي والسياسي، في عدد من دول الخليج لمواجهة المد القومي، وبعض الحركات الثورية في فترة الستينيات، وذلك قبل الثورة الاسلامية في إيران عام 1979.
إذن الحضور الإيراني في المنطقة ليس حضوراً جديداً، لكن الجديد فيه هو طبيعته. فهو مقبول عندما يكون منسجماً مع مصالح تعتبرها واشنطن منسجمة مع استراتيجياتها، وهو مرفوض في الحالات المضادة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر من يقول : إن شعوب المنطقة الأخرى لا تحمي مصالحها ،وإن شؤون بلدانها هي مجرد نتيجة لصراع الآخرين حولها. لنأخذ مثالاً قريباً. فلقد توصلت الحكومة العراقية في فترة السيد المالكي عام 2009 لرئاسة الوزراء وادارة الرئيس اوباما ونائبه حينها الرئيس الحالي بايدن إلى اتفاق لانسحاب القوات الأمريكية في 2011 لانهاء الوجود العسكري الذي بدأ في 2003. رحب الأمريكان بالاتفاق كما رحب به العراقيون. وخلال الفترة من 2011 وحتى أواسط 2014 لم تسقط بغداد بيد طهران. على العكس تحسن مزاج الشارع العراقي إزاء الامريكان بعد الانسحاب. فتراجعت شعارات “الموت لامريكا” ،وبدأت علاقات سليمة بين البلدين نظمتها “اتفاقية الاطار الاستراتيجي” التي صوت عليها بالتزامن مع التصويت على اتفاقية الانسحاب في 2009. بل هناك مثال قد يكون أكثر إقناعاً للسيد شنكر بعدم تراجع نفوذ بغداد. هو أنه في انتخابات 2014، وكان الانسحاب قد حصل، حصلت كتلة السيد المالكي “دولة القانون” على 95 مقعداً من مقاعد البرلمان البالغة 329 مقعداً، متقدمة على جميع القوائم بفارق كبير. برغم ذلك لم يفز السيد المالكي، برئاسة مجلس الوزراء، برغم تمتعه بعلاقات جيدة مع طهران وواشنطن يومذاك، مما يبين أن لبغداد في النهاية قرارها المستقل، بغض النظر عن صحة أو خطأ اجتهاداتها.
2- يرد في مقال السيد ديفيد شنكر أن تصويت مجلس النواب العراقي في 5 كانون الثاني2020 على انسحاب القوات الأجنبية كان تصويتاً غير ملزم.
نعم، قد يكون تصويت مجلس النواب بمفرده غير ملزم تشريعياً باعتباره قرارا وليس قانونا؟ لكن قرار مجلس النواب كان تعزيزاً لقرار الحكومة الذي بمفرده يعتبر ملزماً. فبقرار من الحكومة جاءت القوات، وبقرار منها يمكن الطلب بانسحابها. وإن قرار مجلس النواب يعزز الطلب ويمنحه شرعية اخلاقية وسياسية ،اضافة للشرعية القانونية. وهذا يمثل أعلى وسائل التعبير الدستورية عن الإرادة الوطنية. وعلى الآخرين احترام هذه الإرادة على وفق السياقات الأصولية والمؤسساتية العراقية، وليس التشكيك بها، وعدم احترام قرارات الحكومة ومجلس النواب المنتخبين دستورياً.
قد يرد السيد شنكر إن عدداً غير قليل من النواب قد تغيبوا لمنع النصاب باجتهادهم أو بضغوط مورست عليهم؟ فهذه الحجة -إن كان هذا منطلقها- فهي غير مؤسساتية وغير قانونية، ومجرد اجتهادات شخصية. فالبرلمان العراقي له نصاب محدد كسائر المؤسسات البرلمانية في العالم. فإن تم النصاب، اكتملت قانونية الجلسة. وفي العراق يعتبر النصاب متحققاً بحضور 165 نائباً. وما يصوت عليه مع توفر النصاب سيعتبر نافذا. وفي جلسة التصويت على انسحاب القوات في 5 كانون الثاني 2020 كان النصاب 171 نائباً، وقد صوت على قرار الانسحاب باجماع الحاضرين. وهذا أكثر من التصويت على اتفاقية الانسحاب واتفاقية الاطار الاستراتيجي عام 2009. إذ صوت لصالح الأولى 149 نائباً ولصالح الثانية 144. علماً أن النصاب في جلسة 2009 كان أكثر بـ17 نائباً فقط عن جلسة 2020. ويتذكر الجميع أن حوالي 30 نائباً من التيار الصدري آنذاك رفعوا داخل قاعة الاجتماع لافتات رفضاً للاتفاقية مطالبين بانسحاب فوري. برغم جميع هذه الحقائق رحبت الحكومة الامريكية بالتصويت ولم تثر اية مشكلة اجرائية حوله.
أو هل لأن الحكومة كانت حكومة تصريف أمور يومية؟ وهنا نذكر السيد شنكر إن دعوة القوات الامريكية للمساعدة تمت بموجب رسالة وزير الخارجية العراقية آنذاك السيد هوشيار زيباري بتاريخ 25 حزيران 2014. وكانت الحكومة العراقية يومها حكومة تصريف أمور يومية –ايضاً. فالانتخابات التشريعية الوطنية كانت قد جرت في 30 نيسان 2014، والمعلوم أنه عندما تجري الانتخابات يحل مجلس النواب بموجب المادة 56/ثانياً من الدستور العراقي، وتصبح الحكومة حكومة تصريف أمور يومية. فلماذا يُقبل أن تدعو القوات الامريكية للمجيء إلى العراق حكومة تصريف أمور يومية، بكتاب من وزير الخارجية، ولا يقبل من حكومة تصريف أمور يومية في 2020 ترتيب انسحاب هذه القوات، خصوصاً أن قرار الحكومة قد عُزز بقرار من مجلس النواب الكامل الصلاحيات.
بعد قرار الانسحاب جرت لقاءات ،ومكالمات، ومراسلات بين الحكومة العراقية من جهة، وكل من “الناتو” والجانبالامريكي من جهة أخرى بهدف تنفيذ قرار مجلس النواب والحكومة العراقية.
لم تشر أي من مشاورات ورسائل الـ”ناتو” والجانب الامريكي رسمياً أن القرار غير ملزم. لهذا أجاب السكرتير العام للناتو السيد جينس ستولتنبرغ بعد سلسلة مفاوضات في عمان واتصالات برسالة في 12 شباط 2020 موجهة لرئيس وزراء العراق، نقتطع منها: “يحترم الناتو كلياً سيادة ووحدة الاراضي العراقية وجميع القرارات ذات العلاقة الصادرة من برلمان وحكومة جمهورية العراق، وبهذا الصدد يشارك الناتو هدف تطوير قدرات القوات العراقية المسلحة لكي لا يحتاج العراق باقرب وقت المساعدة المطلوبة”.
كذلك أجرت الإدارة الأمريكية السابقة مع الحكومة العراقية سلسلة لقاءات ،وتبادل الطرفان رسائل ومكالمات، وبرغم الاختلاف في وجهات النظر، لكن الهدف كان تقليص القوات بنية الانسحاب من العراق. ففي مذكرة من السفارة الامريكية في بغداد برقم 2020-02326 بتاريخ 3 نيسان 2021 تنص فقرة رئيسية: “كجزء من حواراتنا حول التعاون الامني فاننا سنناقش اعادة انتشار قوات الولايات المتحدة من العراق”، فالطرف الامريكي فضل يومها تعبير اعادة الانتشار خارج العراق بدل الانسحاب لاعتبارات معروفة.
كذلك، فحسب الوكالات في 20 آب 2020 وخلال زيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي السيد مصطفى الكاظمي لواشنطن، صرح الرئيس ترامب “انسحبنا بشكل كبير من العراق وبقي عدد قليل جداً من الجنود” واعداً “بخروج سريع لقوات التحالف في غضون 3 سنوات”. وفي ذلك نقض كامل لكلام السيد شنكر.
إن العلاقة بين العراق والولايات المتحدة يجب أن لا تنظمها الانطباعات والرغبات الشخصية للقادة السياسيين ولأمانيهم في ظرف محدد. بل يكون باحترام إرادة البلدين وفهم عميق لحقائق الأمور في العراق والمنطقة والظروف التي تمر بها. يقول السيد شنكر: ان القول المفضل للسيد عبد المهدي كان “إن ايران جار وانكم (امريكا) أصدقاء”. يؤسفنا أن يستخف السيد شنكر الدبلوماسي المخضرم والعريق بهذه الكلمات، ولا يقدر أنها تعني في ظل الظروف المعقدة بين دولتين لنا معهما علاقات وثيقة، عن الرغبة بما يسمح للعراق بموضعة نفسه في المكان الصحيح بما يوافق مصالح البلاد والمنطقة التي نعيشها، بينما يطالب السيد شنكر العراق بالوقوف ضد ايران، وهذا مخالف لسياسة البلاد ودستورها ونظامها. فلقد سمعنا من ممثلي الإدارة السابقة مراراً “أما معي أو ضدي”، وهذه سياسة برهنت عن خطأها أمريكياً وعالمياً، فكيف يصح الأمر عراقياً؟
لذلك وانطلاقاً من فهمنا للواقع الجيوبوليتيكي للمنطقة، ونفوذ القوى الاقليمية والدولية الذي أوردناه في النقطة (1) أعلاه، كان الجواب الدائم مع المسؤولين الأمريكيين، ومنهم السيد شنكر ووزير الخارجية السيد بومبيو، بل وحتى الرئيس ترامب في آخر مكالمة جرت بينه ،وبين السيد رئيس مجلس الوزراء السابق يوم 31 كانون الاول 2019 عندما يتم التطرق للعلاقة بإيران كان الجواب، إنكم لا تريدون الحرب، ولم تصلوا للتفاوض المباشر، فلم يبق سوى “التوافقات الضمنية”. وعندما سأل الرئيس الفرنسي ماكرون عند زيارة السيد عبد المهدي الرسمية في 2019 إلى باريس عن وجهة نظره في الاتفاق النووي ودور إيران في المنطقة (وسبق للسيدة المستشارة ميركل ان قامت بالأمر نفسه)، أجابه السيد رئيس مجلس الوزراء في الجلسة الرسمية الموسعة بين الوفدين أن لا حل آخر سوى العودة إلى الأتفاق النووي الموقع في 2015 بكامل بنوده والتزاماته. أما المصالح ،والمخاوف، واتهامات التدخل، والتمدد فيمكن تسويتها بالحوار والمواثيق بين مختلف الأطراف، بما فيها العراق. وذُكر أن الدول المؤثرة في اوروبا كبريطانيا وفرنسا والمانيا وايطاليا قد خاضت حروباً مريرة مدمرة في صراع النفوذ بينها لعقود وقرون طويلة، لكن عندما توصلت هذه الدول إلى “توافقات ضمنية” ومواثيق رسمية لضمان مصالحها الجيوبوليتيكية، عاشت اوروبا -وتعيش الآن- فترة سلم وتعاون وصداقة لم تشهدها في اية مرحلة من تاريخها. فالكلام عن الجيران والأصدقاء هو جزء من هذه النظرة التي كنا ،وما زلنا ندافع عنها. سواء أكان من يحكم في واشنطن جمهورياً أو ديمقراطياً، أو من يحكم في بلداننا إسلامياً ،أو جمهورياً ،أو ملكياً. انتهى/25