لا يبدو أن المعضلة التي خلّفها ظهور تنظيم "داعش" في الشرق الأوسط انتهت بشكل تام، إذ يرى مراقبون أن التنظيم يستعيد خلال الفترة الأخيرة نشاطه تدريجياً في كل من العراق وسوريا وسيناء في مصر، الأمر الذي يثير مخاوف من احتمال تزايد عملياته، أو استعادته لناشطة بشكل أكبر خلال الأشهر المقبلة.
ويعتقد مراقبون أن عوامل عدة أسهمت في تصاعد أنماط العمليات التي يقوم بها، بينها عدم حسم الإشكالات التي أدت ابتداء إلى ظهور التنظيم، والانفلات الأمني في العراق وسوريا، واستغلال قوى إقليمية له للإبقاء على حال عدم الاستقرار في المنطقة، فضلاً عن استغلاله انشغال الحكومات بمواجهة جائحة كورونا.
تزامن مع محاولات إحياء الأمن العربي المشترك
على الرغم من إعلان العراق هزيمة "داعش" في ديسمبر (كانون الأول) 2017، إلا أن عملياته استمرت خلال السنوات الأخيرة، فيما شهدت تصاعداً ملحوظاً في الأشهر الماضية، أبرزها التفجير الانتحاري المزدوج في ساحة الطيران وسط بغداد في يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي خلّف نحو 38 قتيلاً وأكثر من 100 جريح.
ويربط مراقبون بين توقيت تنامي نشاط التنظيم مع محاولات عرقلة انفتاح العراق على المحيط العربي.
ويقول الباحث في الشأن السياسي العراقي أحمد الشريفي، إن النقاشات حول عودة "داعش" يجب أن "تشمل العراق ومصر والأردن وليس سوريا وحسب"، مبيناً أن الأخيرة "تشهد بشكل عام أوضاعاً غير مستقرة سياسياً واستراتيجياً، فضلاً عن مجهولية مستقبل الدولة فيها".
ويبدو أن فكرة "الشام الجديدة" أو ما يصفه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بـ "المشرق الجديد" دفعت التنظيم إلى تكثيف عملياته في العراق، كما يعبّر الشريفي، الذي يشير إلى أن هذا المشروع "سيشمل الأردن ومصر فضلاً عن المحور الخليجي، الأمر الذي أدى إلى الاندفاع في إعادة تفعيل نشاط داعش لعرقلة مساعي إنجاحه".
ويوضح، أن هذا المشروع "سيؤدي إلى إحياء الأمن القومي العربي المشترك"، مردفاً "زيادة وتيرة عمليات تنظيم داعش في المرحلة الحالية تعطي انطباعاً بأن دولاً إقليمية متضررة من هذا التحالف ربما أسهمت في تحفيز هذا النشاط".
ويلفت إلى أن "تنامي دور الأمن القومي العربي المشترك سيشكل ضداً نوعياً للمشاريع الإقليمية التركية والإيرانية".
قوى الإسلام السياسي وتوازنات المرحلة المقبلة
وبالنسبة إلى العوامل الداخلية في العراق، يبين الشريفي أن "داعش" يمثل "ورقة تم تفعيلها أخيراً لأن قوى الإسلام السياسي في العراق باتت تدرك أن توازنات المرحلة المقبلة لن تكون في مصلحتها، سواء أجريت الانتخابات أم لم تجر"، مبيناً أن كلاً من إيران وتركيا باتتا تدركان تلك المعادلة.
وإضافة إلى العامل السياسي، يعتقد الشريفي أن أحد أبرز العوامل "استعادة الأجواء الطائفية ذاتها التي حفزت إنتاج التنظيم في البداية، من خلال إحياء قوى التطرف في البلاد وانتشار الميليشيات في المدن التي كان يسيطر عليها التنظيم".
ويختم أن الدافع الرئيس لتعزيز حلف "الناتو" لقواته في البلاد هو "التخوّف الدولي من احتمالات تفجر الأوضاع من جديد، والذي يعطي الصراع السياسي انطباعاً بأنه على حافة الهاوية".
ويشير مسؤولون في هيئة "الحشد الشعبي" العراقي إلى أن العمليات التي يقوم بها التنظيم في البلاد تتم من خلال عناصر تسللت من سوريا على الأغلب.
وكان الأمين العام لـ "الناتو" ينس ستولتنبرغ أعلن، في 18 فبراير (شباط) الماضي، أن الغاية من رفع عدد القوات هو "منع عودة ظهور تنظيم داعش على نطاق واسع".
مخاوف من تفجر الأوضاع في سوريا
ولا تبدو تلك الإشكالات مقتصرة على العراق، إذ تعاني سوريا أيضاً من تنام نسبي لنشاط التنظيم خلال الفترة الماضية.
وكانت وزارة الدفاع الفرنسية حذرت في 10 أبريل (نيسان) الحالي، من أن التنظيم عاد للظهور في العراق وسوريا مجدداً، فيما لفتت إلى أنه "انهزم جغرافياً لكنه قادر على التحرك".
في السياق، يرى الباحث في الشأن السياسي السوري مالك الحافظ أن السبب الرئيس لهذا النشاط للتنظيم في سوريا والعراق مؤخراً يتمثل في "عدم جدية إنهاء التنظيم بشكل تام". مردفاً، "على الرغم من الحديث عن هزيمة التنظيم في سوريا، إلا أنه ما يزال موجوداً في البادية بالقرب من مناطق سيطرة حكومة دمشق، فضلاً عن عدم معالجة جيوب التنظيم في مناطق شمال شرقي سوريا على الرغم من إعلان النصر في مارس 2019".
ويضيف لـ "اندبندنت عربية"، "ما حصل بعد إعلان النصر على التنظيم هو أن العمليات الأمنية لم تكن بمستوى عال في مواجهة ما تبقى من خلاياه في تلك المناطق".
ويلفت إلى أن الفترة الحالية ربما تمثل مرحلة تحفيز لتلك الخلايا الخاملة للتنظيم في سوريا، مبيناً أن "نسق العمليات التي يشنها التنظيم قد يتصاعد خلال الفترة المقبلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولعل ترجيحات الحافظ بتفجر الأوضاع في سوريا خلال الأشهر المقبلة ترتبط بمسارات عدة، من بينها "تغلغل التنظيم في بعض المناطق مستغلاً التجاذبات والاقتتال الذي يحصل في شمال شرقي سوريا، حيث تحاول تركيا التمدد مقابل مواجهة من القوات الكردية المدعومة من قبل إدارة جو بايدن، فضلاً عن إمكان حدوث خلاف أميركي - تركي مرتقب بسبب اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية بحق الأرمن".
ويتابع أن جملة العوامل تلك تمثل مساحة مناسبة يستغلها تنظيم "داعش" في إعادة ترتيب أوراقه والتغلغل في مساحات الصراع المختلفة.
ويعتقد الحافظ أن التنافس الروسي - الأميركي وغيره من الإشكالات بين القوى المختلفة في المنطقة أدى إلى "عدم حسم إشكال التنظيم في سوريا"، مبيناً أن "الاستغلال للخلافات تلك من قبل التنظيم بدا واضحاً في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 عندما بدأت عملية نبع السلام التركية".
ويلفت إلى أن عوامل عدة أسهمت في استقطاب التنظيم لمجندين جدد، أبرزها "الفقر وغياب العدالة الاجتماعية في مناطق شمال شرقي سوريا، الأمر الذي أسهم إلى حد ما في تزايد نفوذ داعش على بعض مساحاتها".
لبنان وصعوبة تمدد "داعش"
ويقلل الحافظ من احتمالية تغلغل "داعش" إلى لبنان، إشارة إلى أن "الضبط الأمني على الحدود بين سوريا ولبنان يعقد إمكان ذلك".
ويختم أنه "على الرغم من وجود عناصر متطرفة في لبنان إلا أن الإعلان عن وجود التنظيم فيه أمر صعب، إذ للبلد وضع خاص، فضلاً عن أن شكل السلطة فيه يمنع نشوء مثل تلك التنظيمات داخله، وهذا الأمر يجعل التنظيم يستغل الإشكالات على الحدود السورية للتغلغل".
وعلى الرغم من التحذيرات الواسعة من احتمال عودة نشاط التنظيم، نفت قيادة التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن في العراق وجود أي مؤشر على عودة ظهور "داعش"، فيما أكدت استمرار تعاونها مع القوات العراقية بالضغط على بقايا التنظيم.
استمرار "داعش"
على الرغم من كون معاقل تنظيم "داعش" الرئيسة تتركز في العراق وسوريا، إلا أن لمصر أيضاً نصيب من تلك الإشكالات والقلق المستمر من تنامي عمليات التنظيم، خصوصاً في سيناء التي تشهد تزايداً في وتيرتها.
ولم تمض سوى 10 أيام على قيام تنظيم "داعش" بإعدام قبطي مختطف منذ نحو ستة أشهر، إلا أن القوات المصرية تمكنت من قتل ثلاثة من عناصر الخلية المسؤولة عن العملية، بحسب بيان لوزارة الداخلية المصرية، التي أكدت أنها كانت تنوي "القيام بعمليات عدائية بحق الأقباط وممتلكاتهم ودور عبادتهم وارتكازات القوات المسلحة والشرطة".
ويواصل تنظيم "داعش" هجماته على قوات الأمن المصرية والمدنيين ومصالح اقتصادية واستراتيجية، إذ أشارت وزارة الخارجية الأميركية إلى أن هجمات شبه أسبوعية شنت على مواقع حكومية محصنة في العام 2019.
ويعتقد الباحث في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بشير عبدالفتاح أن البعد الأساسي لعودة نشاط التنظيم أخيراً هو "تسرّع الحكومات في إعلان نهايته، وكان المفترض الاكتفاء بإعلان سقوط دولته وليس نهاية التنظيم"، مبيناً أن "الدولة المفترضة انهارت وتفككت لكنه ما يزال قائماً وله فروع تعيد التموضع والانتشار في المنطقة".
ويشير عبدالفتاح إلى مسارات أخرى أسهمت في عودة النشاط، أبرزها "وجود جيوب للتنظيم في سيناء وسوريا والعراق مثلت ملاذاً له، وانشغال العالم بجائحة كورونا منذ أكثر من سنة، إضافة إلى حال التراخي التي أصابت الأجهزة الأمنية في بعض الدول".
ويتابع أن "مبايعة بعض التنظيمات الأخرى لداعش خصوصاً العناصر الموالية للقاعدة منحته قوة مكنته من العودة والقدرة على تجنيد مزيد من المقاتلين والحصول على السلاح والمال".
ويختم أن "نجاح التنظيم في إيجاد ملاذات بديلة في قارة أفريقيا ودول الساحل ساعدته في البقاء والاستمرار".
فوضى السياسة والاضطرابات الأمنية
في المقابل، يقول الباحث والكاتب المصري عمار علي حسن إن السبب الرئيس خلف عودة نشاط التنظيم أنه "لم يهزم بشكل تام"، مبيناً أن ما جرى يمثّل "تراجعاً تكتيكياً، لأن الأسباب التي تؤدي إلى استمراره واستفحاله ما تزال قائمة".
ويضيف لـ "اندبندنت عربية" أن "الجماعات المتطرفة تسير بشكل حلزوني، إذ إنها تتعرض للضربات وتضعف، لكنها سرعان ما تستعيد وضعها وتكون دائرتها في العودة أوسع من السابق".
وفي شأن عودة نشاط التنظيم في سوريا والعراق وسيناء، يبين الباحث أن "تلك الدول تعاني إخفاقات شديدة في بسط نفوذها على كافة التراب الوطني، وتمثل بلداناً مغرية للتنظيم الذي يبحث عن أماكن تعج فيها الفوضى السياسية والاضطرابات الأمنية ليتخذ منها موطناً، فضلاً عن عدم كفاية الإجراءات الحكومية في تلك الدول لمواجهة الإرهاب".
ويتابع أن الاستراتيجية التي تتخذها تلك الدول تكتفي بـ "تعقب الإرهابيين لكنها لا تعالج الظاهرة من جذورها"، مردفاً أنه "حتى لو كانت هناك استراتيجية لاستئصال الإرهاب فإنها ستأخذ وقتاً طويلاً".
ولعل السبب الآخر في استمرار نشاط التنظيم يعود إلى مده بسبل البقاء من قبل دول خارجية، بحسب حسن، الذي يعتقد أن "تلك الدول ما تزال توظف هذه التنظيمات لتحقيق مصالحها من خلال مدها بأسباب البقاء والحرص على بقائها قوية".