تحظى الانتخابات المقبلة في العراق باهتمام كبير سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي والدولي، خصوصاً أنها تأتي بعد فترة توترات كبيرة شهدتها البلاد.
وبدأت الأجواء التنافسية بخصوص كرسي رئاسة الوزراء بشكل مبكر هذه المرة، إذ تتبنى تيارات سياسية رئيسة هذا المنصب كشعار رئيس في دعايتها المبكرة كما حصل في طرح التيار الصدري الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر.
وعلى الرغم من عدم طرح القوى التي لا تمتلك أجنحة مسلحة لخيارات فيما يتعلق برئيس الوزراء المقبل، فإن هذا الأمر يمثل المنطلق الرئيس بالنسبة لها في صياغة تحالفاتها، فيما تشير تسريبات إلى أن دراسة خيار إعطاء رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي دورة أخرى ليس مستبعداً، خصوصاً مع عدم ممانعة عدة أطراف شيعية وازنة ذلك.
ويبدو أن مساعي العراق الأخيرة في الوساطة بين المحاور المختلفة في المنطقة زادت من الاهتمام بتلك الانتخابات.
إعلان الكاظمي عدم الترشح واحتمالات تكليفه مرة أخرى
مثّل إعلان الكاظمي عدم دخوله الانتخابات المقبلة وانسحاب حزب "المرحلة" الذي يحظى بدعمه، نقطة تحول تثير العديد من الرؤى حول الغاية من هذا الخيار، إذ يرى طيف من المراقبين أنها استباق لصناعة تسويات جديدة ربما تشمل دولاً إقليمية رئيسة للدفع باتجاه دورة ثانية له، فيما يرى آخرون أنها أتت بضغط من كتلتي "الفتح" و"سائرون" في محاولة لإبعاد أي أطراف جديدة تقتحم الخريطة الانتخابية الشيعية وتمكن الأطراف غير المسلحة من فرض شروطها على المرحلة المقبلة.
الاهتمام العربي والإقليمي بشأن شكل السلطة في العراق ما بعد الانتخابات المقبلة يبدو واضحاً في الفترة الحالية، خصوصاً بعد محاولات الانفتاح وصياغة التفاهمات من قبل حكومة الكاظمي، فضلاً عن الوساطات التي يديرها للتقريب بين طهران والرياض، الأمر الذي ربما يؤدي إلى دعم كل تلك الأطراف في المنطقة لدورة ثانية له.
ويرى الباحث في الشأن السياسي بسام القزويني أن "الكاظمي تمكن إلى حد ما من فرض رؤية جديدة جعلت من العراق طاولة للحوار بعد أن كان ساحة للصراع، وهذا ما أعطى بغداد قوة مختلفة، حيث إنها تحولت إلى ملتقى لكثير من العواصم المتصارعة في المنطقة"، مشيراً إلى أن "نوع التدخل الخارجي في اختيار رئيس الوزراء يتوقف على من يحافظ على هذه الرؤية وبين من يسعى للعودة للمعادلات السابقة".
وبشأن قدرة الأحزاب الجديدة على التأثير في معادلة السلطة المقبلة، يبين القزويني أن "الأحزاب التي ترفع عناوين الانتفاضة غير قادرة على خوض مضمار الانتخابات المقبلة، لأسباب عدة أبرزها أنها ما تزال متمسكة بالنسق الثوري حتى بعد إعلانها دخول الانتخابات".
ويتابع أن، "رسوخ تجربة الأحزاب التقليدية وامتلاكها المال السياسي، مقابل عدم حسم الحركات الاحتجاجية لخياراتها، سيعطي الأفضلية مرة أخرى لقوى السلطة الحالية".
أوراق ضغط ودعاية مبكرة
وعلى الرغم من الحديث المتكرر من أوساط سياسية عن أن رئاسة الوزراء المقبلة تعد الشرط الرئيس من قبل العديد من القوى الشيعية مقابل صناعة التحالفات الانتخابية، فإن مراقبين يعتقدون أنها تمثل ورقة ضغط لتمرير الاشتراطات وكيفيات تقاسم السلطة خلال المرحلة المقبلة.
ويرى الباحث والأكاديمي دياري الفيلي أن "التوازنات السياسية التي ستحصل على منصب رئيس الوزراء المقبل لا يمكن التكهن بها"، مشيراً إلى دخول تأثيرين على ساحة صناعة السلطة المقبلة، يتمثل الأول في "الحركة الاحتجاجية وتأثيرها على الانتخابات، والتي لم تحسم موقفها إزاء الاتجاهات الأقرب لها"، أما المسار الآخر فيتمثل بـ"التأثير الإقليمي والدولي الذي عاد بقوة بعد حراك حكومة الكاظمي في سياق الوساطة بين إيران والسعودية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح الفيلي لـ"اندبندنت عربية"، أن "الجمهور الواسع المؤيد للحركة الاحتجاجية سيمثل العلامة الفارقة في المشهد الانتخابي المقبل، لأنه سحب كثيرين من مؤيدي القوى الشيعية لصالحه"، مبيناً أن "استثمار الحركة الاحتجاجية لهذا التأييد سيمكنه من التأثير بشكل كبير في معادلة اختيار رئيس الوزراء المقبل".
ولعل هذا التحول في المزاج العام للشارع الشيعي سيكون المحفز الأكبر للكتل السياسية في محاولة صناعة تفاهمات مبكرة بشأن رئاسة الوزراء تسبق حتى موعد الانتخابات أو إعلان النتائج.
وبشأن رفع التيار الصدري شعار "رئيس وزراء صدري"، يبين الفيلي أنها تمثل "مناورة انتخابية لتحفيز ناخبي التيار، فضلاً عن كونها ورقة تفاوض لعقد تفاهمات مع بقية الأطراف وترميم الخلافات السابقة".
ويشير إلى أن "كل ما يجري الآن يمثل تفاهمات أولية، ونتائج الأطراف المختلفة في الانتخابات هي التي ستحسم كيفية فرض الشروط بشأن هذا المنصب".
تفاهمات إقليمية محتملة
ويبدو أن مخاوف سياسية عدة هي التي تدفع باتجاه إنتاج توافقات مبكرة بشأن المرحلة المقبلة، خصوصاً مع شعور العديد من الكتل السياسية أن نسب المشاركة في الانتخابات المقبلة ستكون ضئيلة إلى الحد الذي قد يثير موجة غضب شعبية جديدة.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن "رسم الخارطة السياسية لما بعد الانتخابات العراقية جرى العمل بها بشكل مبكر هذه المرة، خصوصاً من قبل الأطراف الرئيسة داخل معادلة السلطة"، مبيناً أن "انسحاب الكاظمي من الاشتراك في الانتخابات المقبلة جزء من هذه المعادلة".
ويوضح لـ"اندبندنت عربية"، أن الدافع الرئيس لصياغة تفاهمات مبكرة بشأن كرسي رئاسة الوزراء يرتبط بـ"إدراك القوى السياسية أن المشاركة في الانتخابات المقبلة ستكون متدنية"، مبيناً أن "نسبة المشاركة ستكسر ثقة الشارع العراقي في العملية الانتخابية وهو ما يحفز محاولات الأطراف الوازنة استباق أي إشكالات من خلال التوافق على شكل السلطة مبكراً".
ولا يستبعد الهيتي "إمكانية تكليف الكاظمي لدورة ثانية، خصوصاً أنه يحظى بعلاقات جيدة مع التيار الصدري"، مستدركاً أن الاحتمال الآخر يتعلق بإمكانية تكليف رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي للمنصب مرة أخرى، حيث إن وصول الكاظمي للسلطة ربما مثل "مقدمة لعودة العبادي لها".
معادلة طهران - واشنطن من جديد
تبدو معادلة التوافق بين الولايات المتحدة وإيران قد عادت إلى الواجهة من جديد، بعد أن أقصيت في انتخابات عام 2018، ما أدى إلى فرض رؤية طهران على مسار اختيار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.
ويقول رئيس مركز التفكير السياسي إحسان الشمري إن المتغير في المرحلة الحالية هو "عودة التوافقات الأميركية-الإيرانية في العراق، وليس كما حصل عام 2018 من تمكين للإرادة الإيرانية"، مؤكداً أن عودة هذا التوافق "سيكون له دور ربما يوازي دور نتائج الانتخابات في اختيار رئيس الوزراء المقبل".
ويضيف لـ"اندبندنت عربية"، أن قضية اختيار رئيس الوزراء المقبل مرهونة باحتمالين، يتعلق الأول بـ"إقامة انتخابات نزيهة تدفع باتجاه اشتراك شعبي واسع، الأمر الذي سيعزز من إمكانية فرض القوى الجديدة شروطها على المنصب"، أما الاحتمال الآخر فيتمثل في "إعادة صياغة نفس السيناريو السابق والذي يتسيد عليه مشهد التزوير وحضور المال السياسي والسلاح في معادلة الانتخابات، ما يدفع مرة أخرى إلى العودة إلى البيوت الطائفية في اختيار المناصب العليا في البلاد".
وبحسب الشمري، فإن رفع بعض التيارات السياسية شعار رئاسة الوزراء كمطلب انتخابي، يمثل "حافزاً لجماهيرها في الاشتراك"، مبيناً أن هذا المنصب "يتطلب الأغلبية البرلمانية التي لا يمكن تحقيقها من دون تفاهمات مع غالبية الأطراف السياسية".