تعرض العديد من الناشطين العراقيين للاغتيال (محمد صواف/فرانس برس)
على الرغم من إنفاق الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ العام 2016، مبالغ مالية ضخمة على مشروع نصب كاميرات مراقبة في العاصمة بغداد، وفي مدن عدّة جنوبي ووسط البلاد، مع إنشاء مراكز تحكم ورصد خاصة بها، إلا أن مسؤولين يؤكدون أن برنامج كاميرات المراقبة الحكومية لم يحقق حتى 50 في المائة من الهدف المرجو منه، وهو تضييق مساحة الجريمة المنظمة ومساعدة قوات الأمن في تتبع العمليات الإرهابية والكشف عنها. ويأتي ذلك، بحسب المسؤولين، بسبب تعرض البرنامج لتحديات كبيرة طوال السنوات الماضية، منها عمليات تخريب متعمدة، وإهمال أفضى إلى تعطل الكثير من هذه الكاميرات، فضلاً عن تسبب ضغوط سياسية وأخرى مورست من فصائل مسلحة، بوقف التحقيق في كثير من الجرائم التي وقعت خلال الفترة الأخيرة، وكانت كاميرات المراقبة قد رصدتها.
وتتحدث مصادر أخرى عن أن أحد أهم أسباب الإخفاق يرتبط بالفساد داخل المؤسسات الأمنية، ما يساهم في سحب أدلة من التحقيقات مقابل مبالغ مالية، منها أشرطة كاميرات المراقبة.
تعرض برنامج كاميرات المراقبة لتحديات عدة طوال السنوات الماضية، منها التخريب المتعمد والإهمال
وشهد العراق خلال الأشهر الأخيرة الماضية، عدداً كبيراً من عمليات الاغتيال التي طاولت ناشطين مدنيين وحقوقيين، فضلاً عن عمليات تفجير واستهداف لنوادٍ ليلية ومحالٍ تجارية، وعمليات سطو مسلح، وقعت في مناطق عدة من بغداد وجنوبي ووسط البلاد، ولم تنجح كاميرات المراقبة في التوصل إلى أي من الجهات التي تقف خلفها. وكانت السلطات العراقية قد برّرت تعذر التوصل إلى خيوط لاعتقال المتورطين باغتيال الباحث والأكاديمي العراقي هشام الهاشمي (اغتيل في يوليو/ تموز 2020)، بتعطل كاميرات المراقبة في مدخل الحيّ الذي كان يقطنه. وهذا التبرير تكرّر مع اغتيال الناشط صلاح العراقي، شرقي بغداد، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، وأيضاً إثر اغتيال رئيس تنسيقيات التظاهرات في كربلاء إيهاب الوزني، في التاسع من شهر مايو/ أيار الحالي.
وبحسب مسؤول في وزارة الداخلية العراقية، فإنه يفترض وجود أكثر من 9 آلاف كاميرا مراقبة حكومية في بغداد وحدها، ومحددة ضمن خريطة تشمل المباني الحكومية والمؤسسات الخدمية العامة والتقاطعات الرئيسية والساحات العامة، بالإضافة إلى الأسواق والطرق الحيوية والحواجز الأمنية ومفترقات الطرق والجسور والحدائق والمناطق ذات التجمعات الكبيرة والمهمة في العاصمة ومواقع أخرى ذات خصوصية. لكن المصدر أكد أن ربع هذه الكاميرات فقط تعمل اليوم، بعدما خرجت بقية الكاميرات عن دائرة التغطية بسبب الإهمال والتعطل أو التخريب المتعمد، فيما كانت كاميرات أخرى قد استوردت في عهد محافظ بغداد الأسبق علي التميمي من منشأ سيئ، وفي صفقة دارت حولها شبهات فساد، بحسب قوله.
وأوضح المسؤول العراقي أن "هناك أكثر من 9 آلاف كاميرا استوردتها الدولة بحسب الأوراق الرسمية الخاصة بالاستيراد والتعاقد، لكن عملياً، فإن ربع هذا العدد غير موجود في بغداد، بينما تعتمد قوات الأمن غالباً على الكاميرات الأهلية الخاصة بالمحلات والمتاجر والمنازل، للتحقيق في الجرائم التي تقع والتي تحاول الشرطة ملاحقة حيثياتها أو سياق حدوثها للتوصل الى المتورطين في تنفيذها".
وتحدث المصدر من وزارة الداخلية عن "ضغوط سياسية وأخرى من فصائل مسلحة، مورست أيضاً، لتحييد ما رصدته بعض كاميرات المراقبة والمتعلق بجرائم عدة، كان آخرها انفجار عبوة ناسفة بشكل عرضي خلال نقلها بواسطة درّاجة نارية شرقي بغداد، في 23 مارس/ آذار الماضي، ما أسفر عن مقتل عنصر في فصيل مسلح وجرح آخر، كذلك حادثة اقتحام ناد ترفيهي في بغداد، والاعتداء على مرتاديه وسرقة أموال منه، مطلع شهر إبريل/ نيسان الماضي، بالإضافة إلى التحقيق في اقتحام مليشيا مسّلحة حاجزاً أمنياً والاعتداء على أفراده شمالي العاصمة".
يفترض وجود أكثر من 9 آلاف كاميرا مراقبة حكومية في بغداد وحدها
من جهته، اعتبر الخبير الأمني العراقي سعد الحديثي أن "عجز الحكومة عن تقديم أي مشتبه فيه أو متورط في الجرائم التي تقع ببغداد، على مستوى عمليات الاغتيال أو السطو أو السرقة، فضلاً عن العمليات الإرهابية الأخيرة، دليل على فشل برنامج كاميرات المراقبة". وأضاف الحديثي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "كاميرات المراقبة التي يستعملها الأهالي في منازلهم، أو أصحاب المحال التجارية والأسواق والشركات، باتت أكثر أهمية من حيث اعتماد الأجهزة الأمنية العراقية عليها، أكثر من اعتمادها على كاميراتها التي أنفقت عليها عشرات ملايين الدولارات". كما تحدث الخبير الأمني عن أن عدداً من المواطنين "تعرضوا للتهديد بسبب وقوع جرائم قرب منازلهم أو مناطق عملهم، وقيامهم بتسليم الأمن تسجيلات رصد الكاميرات، وهو أمر يترتب عليه تعريض المواطنين الذين يمتلكون كاميرات مراقبة لتحديات أمنية".
وتحظى ثقافة كاميرات المراقبة بانتشار واسع بين المواطنين في المدن العراقية كافة، حيث يتم تثبيت هذه الكاميرات على واجهات المنازل. ووفقاً للخبير الأمني سعد الحديثي، فإن مكاتب أهلية مختصة بهذا النوع من بيع ونصب كاميرات المراقبة، حصلت على تراخيص استيراد أكثر من 50 ألف كاميرا للمراقبة متنوعة المنشأ منذ مطلع العام الحالي، غالبيتها تمّ استيرادها عبر موانئ البصرة من الإمارات، في مؤشر إلى كمية الطلب عليها في البلاد.
وفي هذا الإطار، طالب عضو لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي بدر الزيادي الحكومة بالعودة إلى الاهتمام ببرنامج كاميرات المراقبة الحكومية والاستعانة بكاميرات المراقبة الخاصة التي يمتلكها المواطنون، من أجل مواجهة الجريمة المنظمة وعصابات القتل والاغتيال، معتبراً في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "إذا لم تفرض الحكومة سيطرتها الأمنية في هذا الخصوص، فإن عمليات الاغتيال ستزداد، وستتجه الاوضاع نحو الأسوأ مع اقتراب موعد الانتخابات العامة المبكرة (10 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل)".
أبرز الجرائم التي جرى التستر عليها ارتبطت بالهجمات على المتظاهرين في ساحة التحرير
واتهم عضو التيار المدني العراقي أحمد حقي جهات وصفها بـ"قوى اللادولة"، بالعمل على تعطيل أي جهد استخباري عراقي متطور، في بغداد تحديداً، بغية "إبقاء مساحة حرّية واسعة لهذه القوى للتحرك وتنفيذ عملياتها". وأضاف حقي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "بعض كاميرات المراقبة تم إطلاق النار عليها وتدميرها قبل أيام من حصول هجمات وجرائم في الأمكنة ذاتها التي كانت منصوبة فيها، تبنت بعضها مليشيا (ربع الله)، فيما جرى تخريب كاميرات أخرى بإسقاط الأعمدة التي كانت منصوبة عليها، أو قطع الأسلاك، دون أن تتم صيانتها لغاية اليوم". وأشار إلى تمكن كاميرات مراقبة من رصد جرائم، "إلا أنه جرى التعامل مع الأمر وفق معادلات سياسية، خاصة في جرائم الاغتيال، وبعضها استخدم للمساومة أيضاً بين أطراف عدة، من أجل التكتم على هذا الملف أو ذاك".
وبحسب عضو التيار المدني العراقي، فإن أبرز جرائم التستر والمساومة ارتبطت بما رصدته كاميرات المراقبة في ساحة التحرير (في بغداد) عام 2020 ونهاية عام 2019، من قنص للمتظاهرين وضربهم بقنابل الغاز من قبل فصائل مسلحة وأفراد أمن، "إذ جرى التستر على التسجيلات والتكتم عليها لأسباب وضغوط سياسية طبعاً".
وأكدت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، أول من أمس الإثنين، وقوع 89 حادثة اغتيال أو محاولة اغتيال لصحافيين ومدونين وناشطين عراقيين، منذ انطلاق التظاهرات العراقية في أكتوبر/تشرين الأول 2019. ولم تكشف السلطات العراقية عن ملابسات جرائم الاغتيال التي شهدتها البلاد منذ انطلاق الحراك الشعبي، بعدما كانت قد وعدت بحسم ملفاتها خلال فترة وجيزة. ومن أبرز حوادث الاغتيال تلك التي أدت إلى مقتل الخبير الأمني العراقي البارز هشام الهاشمي، في يوليو الماضي، والتي قالت الحكومة حينها إنها توصلت إلى خيوط تشير إلى الفاعلين، من دون أن تعلن حتى اليوم هوياتهم.