كتب محمود الهاشمي:
لم تكن عملية اختيار الارض التي تجلس عليها كلية الزراعة /جامعة بغداد / منذ عام تأسيسها 1952 دون تخطيط ودراية ،حيث ان كلية تعنى بالجانب الزراعي بكل اقسامه تحتاج مساحة مناسبة تغطي عمل جميع هذه الاقسام ،اعتبارا من قسم التربة فالبستنة فالمحاصيل الزراعية فالحشرات فالانتاج الحيواني ،الوقاية ،اقتصاد وارشاد زراعي ،مكننة ،صناعات غذائية ،والعلوم الاساسية .
لذا فقد تم تحديد مساحة تقدر ب555 دونما .
وعلى مسافة تبعد حوالي (17) كم عن بغداد ضمن قضاء ابي غريب حيث تحيطها المناطق الزراعية والمؤسسات الزراعية من الثروة الحيوانية الى الدواجن الى الاقطان مع اعمالها ومختبراتها والاراضي التابعة لها ،كما تم اختيار المكان بشكل دقيق حيث محصورة مساحة الكلية بين نهر ابي غريب الذي يروي اراضيها وبين الشارع العام للطريق الرابط بين بغداد والانبار ثم الى الدول المجاورة (سوريا والاردن ).
جاء تخطيط كلية الزراعة طبقا لخارطة كلية الزراعة في جامعة كالفورنيا بالولايات المتحدة
حتى ان الكثير من النباتات من اسيجة(شوك الشام) الى تمر الهند الى اشجار غابية اجنبية كثيرة ،لتبدو مع الاشجار العراقية من نخيل وغيره اشبه بغابة متنوعة جميلة .
ان جميع الذين زاروا او درسوا في كلية الزراعة بمنطقة ابي غريب مازالوا يحملون ذاكرة جميلة عنها وعن مبانيها وتصاميمها ورونق حدائقها وغاباتها ووسائل الراحة وجمال الطبيعة ناهيك عن مؤسساتها العلمية وتقدمها .
تكاد ان تكون الكلية تغطي معظم حاجة منتسبيها من خضر وتمور وفواكه وبيض ولحوم بيضاء وحمراء بالاضافة الى انتاج الحليب ومنتجات الالبان وافران الخبز.
الكلية مصممة لاسكان منتسبيها سواء الاساتذة او الموظفين او العمال وهناك احياء خاصة لكل فئة ونوادٍ ومقاهٍ ودور تسلية وجمعيات تعاونية استهلاكية .
تعد (حديقة السباع ) هي الايقونة العامة للكلية حيث تماثيل الاسود التي تطلق الماء من افواهها والتي جلب تصميمها مع نشأة الكلية مدير الحدائق (نصيف جاسم ) من دولة الهند اثناء دراسته لديهم انذاك .
ان اول عميد لكلية الزراعة كان الدكتور ممتاز العمري الذي نظم الكلية على يديه واضاف لها مرافق بما في ذلك احواض خاصة لتصفية المياه وكذلك مدارس لطلبة الحي ،وجاء من بعده الدكتور عبد الكريم الخضيري الذي اول من زرع الطماطم في الشتاء (المغطاة). وتبعه عمداء كثيرون .
هذه الكلية تقدم الخدمات الكاملة للطلبة اثناء وجودهم بالاقسام الداخلية المزودة بكل وسائل الخدمة بدأ من غسل الملابس الى كيها
ناهيك عن النوادي والمطاعم والمدينة الرياضية الواسعة الملاعب والتي كان يديرها الاستاذ عبد الغني عسكر لاعب المنتخب العراقي في اربعينيات القرن الماضي ،والتي خرجت اللاعب الكبير حسين سعيد ايضا .
هذه الكلية التي خرجت الالاف من الطلبة ومنحت العشرات من الشهادات العليا في مختلف الاقسام والعلوم ،تعرضت بعد الغزو الاميركي للعراق الى هجوم من قبل اللصوص لكن موظفي وعمال واساتذة الكلية تصدوا لهم باسلحتهم الخاصة وحافظوا على ممتلكاتها ،ولكن تعرضت الى ضغوط الارهاب والارهابيين وطال ذلك عمداء الكلية ،لكن الكلية حافظت على واقعها واستمر بها الدوام
وللاسف فجأة وبسبب اخطاء بعض الشخصيات ،تم اغلاقها ونقل موقعها مع كلية الطب البيطري الى الجادرية حيث حوصرت في دونمين او اقل بين مبنى وحديقة ومكتبة وتسجيل وكافتيريات وقاعة دراسة وقطع من الارض لاتتجاوز 4م2 لغرض التجربة الزراعية اما البقرة والدجاجة فيرسمها الاستاذ على السبورة .
شغلت كلية الاعلام/جامعة الانبار /مكان الكلية لحوالي عام او اكثر ثم عادوا لمحافظتهم لتبقى االكلية مجرد مبانٍ ميتة تنام على عروشها ،دون ادنى صيانة او سقي لمزروعاتها وبساتينها الخلابة ومناظرها المدهشة .
المفاجأة ان وزارة التعليم العالي تبيع ارض كلية الزراعة الى وزارة التجارة ،وسرعان مايأتي احد المستثمرين ليشتري الارض وماعليها ويبدأ بتحويلها الى احياء سكنية ،فغاب اي وجه لمعالم الكلية وكأن البلد قد خلا من أراضٍ سكنية وهي المساحات الممتدة على عشرات الكيلو مترات من ابي غريب وحتى الفلوجة .
لم يغب وجه كلية الزراعة بتاريخه القديم وعراقة معالمه وضخامة اشجاره التي يعود تاريخ زرعها الى عام التأسيس 1952.
سوف لن يقرأ احد المارة من امام الكلية القديمة لوحة (كلية الزراعة تأسست عام 1952) والمكتوبة بالخط الكوفي بل سيقرأ (حي ؟؟؟؟) وسيعثر علماء الاثار بعد الف عام على دورق مدفون تحت الارض او مقطع من جهاز او لوحة مكتوب عليها (الى قسم التربة )
ليتأكدوا ان امة دفنت مؤسساتها العلمية وجلست فوق ركامها !!
لم يكن المكان يحوي كلية الزراعة لوحدها انما كإن هنالك المعهد الزراعي ومعهد الارشاد الزراعي ومعهد البحوث والموارد الطبيعية .
لانعرف سببا لترك موقع كلية الزراعة والرضا بامتار بالجادرية ؟ مع العلم ان كلية الطب البيطري عاودت الدراسة بموقعها في ابي غريب ايضا !
قد اكون انا ومن مثلي اكثر الما من سوانا على ماحل بهذه المؤسسة العلمية لاني وردتها طفلا بعمر الرابعة وعشت بها طفولتي وشبابي وعملت في مرافقها (موظف في المكتبة ) مثلما عمل اخي الاكبر والمرحوم والدي ..
وداعا ايتها الجنة الخضراء ويا مدينة العلم والمعرفة وداعا لعشبك ومائك واهلك وتاريخك
لانهارك وشوارعك ،وليس غريبا على تصرفي حين قمت قبل اشهر بكتابة اسماء الاسر التي سكنت قريتنا الصغيرة المطوقة بالبساتين والماء لشدة محبتي لهؤلاء الناس .
لقد انتصر الجهل عليك فاسمحي لي ان ابكيك
واودعك بكل هدوء ايتها الجنة الخلابة .