أدى استيراد عشرات آلاف السيارات بعد عام 2003 إلى العراق، من كافة المناشئ العالمية والموديلات بصورة عشوائية وبشكل غير مدروس ومن دون ضوابط، إلى ترك آثار سلبية على الشوارع، لا سيما وأنها أٌنشأت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولا تستوعب 7 ملايين سيارة، نصفها في العاصمة بغداد التي باتت الحركة داخلها، لاسيما في أوقات الذروة، شبه مستحيلة.
وفي ظل شبه انعدام النقل العام أو النقل الجماعي، باتت السيارات الخاصة هي الوسيلة الوحيدة للنقل، مما أدى إلى استغراق التنقل بين مناطق العاصمة وقتاً طويلاً يصل إلى ساعات.
وعلى الرغم من الخطط الحكومية لإنشاء وسائل للنقل الجماعي للتقليل من زخم السيارات، إلا أنها ظلت حبراً على ورق، ولم ير المواطن العراقي منها سوى الوعود الحكومية والأمنيات، في وقت تتوقع وزارة التخطيط أن يزيد عدد السيارات إلى الضعف بعد 14 عاماً لتصل إلى 15 مليون سيارة في ظل عدم وجود رؤية حكومية للحل.
طرق لم تُحدَّث منذ عقود
وأدت زيادة عدد سكان العراق بأكثر من 16 مليون نسمة وفق إحصاءات العام 1987، ليصل العدد الإجمالي إلى 40 مليون شخصاً، وفق تقديرات وزارة التخطيط لعام 2021، إلى زيادة الضغط على النقل، لا سيما في العاصمة التي تضم أكبر كتلة بشرية ويتجاوز عدد سكانها أكثر من 8 ملايين نسمة، كما أن هذا العدد المرتفع للسيارات الخاصة يسير على طرق لم يتم تحديثها منذ عقود، مع غياب وسائل النقل العامة الحديثة.
الوصول إلى وسط العاصمة يستغرق ساعات
وقال فارس أحمد وهو عامل في إحدى دوائر الدولة في منطقة باب المعظم وسط بغداد، ويسكن في منطقة الإعلام جنوب غربي العاصمة، "أصل إلى مكان عملي في وقت يستغرق أكثر من ساعة ونصف الساعة لمسافة أقل من 10 كيلومترات، وبذلك أستغرق أكثر من ثلاث ساعات على الطريق بين الذهاب والإياب بسبب الزحام الكبير في شوارع بغداد". وأضاف، "على الحكومة حل هذه المشكلة التي باتت قضية توتر العراقيين"، متسائلاً "كيف ستكون شوارع بغداد بعد سنوات؟".
15 مليون سيارة عام 2035
ويبدو أن إعلان وزارة التخطيط أعداد السيارات المتوقعة بعد 14 عاماً كان صادماً للعراقيين، في ظل عدم وجود حلول آنية أو بعيدة المدى لحل مشكلة أعداد المركبات المتزايدة وتأثيراتها المستقبلية على حركة العراقيين وصحتهم. وقال المتحدث باسم وزارة التخطيط عبدالزهرة الهنداوي لوكالة الأنباء العراقية (واع)، إن "أعداد السيارات بدأت تزداد بشكل كبير بعد عام 2003، إذ هناك حالياً ما لا يقل عن 7 ملايين سيارة للقطاع الخاص فقط، عدا السيارات الحكومية والدراجات الهوائية والستوتات والتكاتك"، متوقعاً "وصول العدد الكلي إلى 15 مليون سيارة خلال عام 2035، وربما تتغير هذه التوقعات إذا كانت هناك إجراءات معينة".
في ظل شبه انعدام النقل العام في العراق، باتت السيارات الخاصة هي الوسيلة الوحيدة للنقل (اندبندنت عربية)
استيراد السيارات بشروط
وأضاف المتحدث أن "الوزارة تعمل باتجاهين للتعاطي مع ملف زيادة أعداد السيارات واستيرادها، الأول إخضاع المستورد منها لقرار المواصفات العراقية بشروط السلامة، إذ إن هذا الإجراء بدأ منذ الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي وسيُطبق على العجلات موديل 2022 صعوداً، إذ لن يُسمح بدخول أي عجلة دون هذا الموديل، ما لم تكن مطابقة للمواصفات العراقية التي تضاهي المواصفات الأوروبية والخليجية".
وتابع الهنداوي أن "الاتجاه الثاني يطبق عبر لجنة مشتركة بين وزارة التخطيط والمالية والجهات الأخرى ذات العلاقة، لوضع معايير وضوابط خاصة باستيراد السيارات، إذ إن الموضوع يتعلق بشكل أكبر بوزارات التجارة والمالية والداخلية والمرور والجمارك والضريبة وغيرها"، مبيناً أن "هذه الجهات القطاعية هي المعنية بهذا الملف".
إنشاء وتوسيع الشوارع
وبخصوص الإجراءات الكفيلة بتقليل الزحام المروري، بين الهنداوي أن "التوجه الثالث المختص بملف الزحام المروري يتم عبر توسيع الشوارع، وترتبط بإنشاء شوارع جديدة وخطوط جديدة، سواء عبر توسعة الشوارع الخارجية بين المحافظات أو الداخلية"، مؤكداً أن "هناك مشاريع مستقبلية في هذا الإطار".
وأوضح المتحدث باسم وزارة التخطيط أن "مشروع الطريق الحلقي في بغداد سيحيط بالعاصمة من كل الجهات، ما سيسهم في امتصاص الزخم داخلها وتحويله إلى الأطراف، إضافة إلى أن هناك مشاريع لإنشاء طرق جديدة في بغداد والمحافظات"، لافتاً إلى أن "هذه المشاريع سيكون لها تأثير كبير وإيجابي في فك الزخم الكبير في مراكز مدن بغداد والمحافظات".
يُشار إلى أن "المشروع الحلقي" عبارة عن طريق دائري حول بغداد طوله 94 كيلومتراً وعرضه 100 متر. وتُقدر الجهات الحكومية كلفته الإجمالية بمليار دولار، لذلك فهناك توجه لمنحه كفرصة استثمارية.
الوسائل المتعددة هي الحل
ويرى مسؤولون حكوميون أن مواجهة زيادة أعداد السيارات سنوياً تتمثل بتفعيل النقل المشترك ليكون الأساس في التنقل بين مناطق العاصمة، والاستفادة من تجارب الدول التي تواجه كثافة سكانية عالية لتقليل حركة السيارات الخاصة.
وقال مدير الطرق والجسور في وزارة الإسكان العراقية حسين الموسوي إن "الزيادة الكبيرة في أعداد السيارات في العراق عامة والعاصمة بخاصة يتطلب مجموعة حلول، منها إنشاء طرق حول بغداد وتوسيع الطرق الحالية، مع إنشاء مترو وقطار بغداد". وأضاف الموسوي أن "حل مشكلة العدد الكبير من السيارات واختناق حركة السير في العاصمة هو استخدام وسائل النقل المتعددة لأنه من غير المعقول أن نستخدم وسيلة نقل واحدة في مدينة ذات كثافة سكانية عالية يتجاوز عدد سكانها 6 ملايين نسمة". وتابع أن "عدد السيارات المرتفع لا يمكن أن يُستوعب في أكبر شبكات الطرق، لذلك يجب إنشاء مترو بغداد والقطار المعلق واستخدام الباصات والنقل النهري"، لافتاً إلى أن "وجود مدينة بسماية واحتمالية توسعها وكذلك التخطيط لإنشاء مدينة قرب مطار بغداد، يجعل من الضروري أن يتم تفعيل النقل المشترك مثل القطار السريع الذي يربط العاصمة بأطرافها".
وتقع مدينة بسماية على الطريق الرابط بين بغداد ومحافظة واسط على بعد 20 كيلومتراً من مركز محافظة بغداد، ووقعت الحكومة العراقية عام 2012 عقداً مع شركة هانوا الكورية الجنوبية لإنشائه، ويضم 100 ألف وحدة سكنية ويتسع لـ500 ألف شخص، وهو أكبر مجمع سكني تم إنشاؤه في العراق لتخليص العاصمة من الزخم السكاني.
ومن المقرر بناء مجمعات أخرى حول العاصمة أبرزها مدينة الرفيل في ضواحي مدينة بغداد المتوقع تشييدها على مساحة 106 دونمات، وتضم مجمعات سكنية ومدينة إدارية ومرافق ترفيهية، ما من شأنه أن يزيد الضغط على قطاع النقل في العاصمة.
طرق تستوعب 200 ألف سيارة
وبيّن الموسوي أن "الطرق الحولية الأربعة حول بغداد مهمة جداً ويجب أن تنفذ مع ضرورة توسيع الطرق الحالية ذات التصاميم القديمة لأنها بنيت لاستيعاب 200 ألف سيارة باليوم وفق إحصاءات المرور، بينما اليوم تصل أعداد السيارات اليوم إلى 3 ملايين سيارة والعدد في تزايد، ولذلك نحتاج إلى توسيع الطرق مع إلزام الموظفين بالناقل الجماعي، لا سيما أنه وفق المقاييس العالمية يجب أن يكون هناك قطار أو مترو في أي مدينة يصل عدد سكانها إلى 3 ملايين شخص".
ووفق المخططات المقرر تنفيذها على مراحل في العاصمة، قطار معلق ومترو وقطار سريع.
وكانت وزارة التخطيط أكدت التوقيع الأساس لمشروع القطار المعلق ونقله إلى وزارة النقل ومحافظة بغداد وتم رصد مبالغ له في موازنة 2020-2021. وأكدت الوزارة حينها أن أولى خطوات العمل بالمشروع ستبدأ في شهر أبريل (نيسان) 2022، وستشمل مناطق الكرخ والرصافة.
وبيّن الموسوي "دائرتنا مسؤولة عن الطرق الخارجية وحدود العاصمة والجسور التي تربط ضفاف نهري دجلة والفرات وتفرعاتهما، وباقي الطرق من مسؤولية أمانة بغداد"، مشيراً إلى أن دائرته تولت مسؤولية تقليل الزخم المروري في محافظات عدة من خلال تحويلات تعمل على تبديل مجرى الطريق، بحيث لا يمر بوسط المحافظة للتقليل من الاختناقات المرورية، وهي ضرورية في ظل الزيادة الكبيرة في أعداد السيارات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد أن "بغداد بحاجة إلى جسور إضافية تربط بين ضفتي نهر دجلة، إلا أن بناءها مرتبط بإنشاء الطرق التي تربط الجسور بطرق جديدة لامتصاص حجم الزخم المروري، وهذه من مسؤولية أمانة بغداد".
تأثيرات بيئية
ولعل العدد الكبير من السيارات في العراق بظل توقعات الزيادة، تؤثر سلباً في سكان البلاد، لا سيما في بغداد، إذ ستكون العواقب وخيمة على صحة الإنسان.
وحذر أستاذ قسم هندسة البيئة في جامعة بغداد حيدر محمد من "التأثيرات البيئية نتيجة طرح ملايين السيارات لعوادمها في الهواء، مما ينتج عنه هواء ملوث مسبب للأمراض"، داعياً إلى "التوجه إلى العجلات الصديقة للبيئة والاعتماد على النقل الجماعي للتقليل من حجم تلوث الهواء". وأضاف، "مع وجود سيارات غير مطابقة للمواصفات العالمية تزداد المؤثرات البيئية السلبية ومطروحات السيارات من الغازات المختلفة التي تُعتبر سامة ومسرطنة، وهذه الغازات على اختلاف أنواعها لها تأثيرات صحية سلبية تبدأ من بث غازات أكاسيد الكربون والنيتروجين وأكاسيد الرصاص وأول أوكسيد الكربون، وهذه الغازات تؤثر في صحة الإنسان بدءاً بالجهاز التنفسي وحساسية للجلد وحكة للعين، إضافة إلى أمراض الجهاز التنفسي".
وأكد الأستاذ الجامعي أن "طرح هذه الغازات بكميات هائلة له تأثيرات مباشرة على مرضى السرطان"، لافتاً إلى أن "طرح محركات السيارات هذه الغازات سيكون له تأثيرات على التغير المناخي وما يصاحبه من غازات".
سيارات صديقة للبيئة
وعزا حيدر محمد استخدام العراقيين هذه السيارات إلى "غياب وسائل نقل جماعي التي تعتمد على الطاقة النظيفة فبوجود هذه الوسائل سيقل اعتمادنا على السيارات الشخصية التي تسبب أضراراً صحية، والشيء الآخر هو أن ثقافة السيارات الصديقة للبيئة بدأت تشق طريقها ونحن لا نمتلك هذه الثقافة، وقد نكون في عام 2035 ما زالنا نعتمد على سيارات البنزين".
وزاد أن "التوجه العالمي يسعى إلى وسائط النقل الصديقة للبيئة أو الطاقات البديلة وما شابه، لذلك يجب أن نغير ثقافتنا ونعتمد على السيارات الصديقة للبيئة"، داعياً إلى "تعديل محركات سيارات البنزين لتعمل على الغاز، وهناك محطات بدأت تزود هذه السيارات بالمحروقات، والحكومة تعمل حالياً على دعم هذا التوجه".
ولفت إلى أن "السيارات التي تعمل بالغاز أقل ضرراً على الصحة العامة من السيارات التي تعمل على البنزين، وهذه الخطوة بسيطة إلا أنها بحاجة إلى مزيد من الدعم"، مرجحاً أن يكون الاعتماد المستقبلي على السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية.
بدوره، دعا الباحث الاقتصادي باسم جميل إلى "تشكيل لجنة عالية المستوى من الوزارات المتخصصة تملك صلاحيات التشريع والتنفيذ لوضع حلول لمشكلة زيادة أعداد السيارات".
وأضاف أن "هناك دوائر مسؤولة عن هذا الموضوع من ضمنها المصارف التي تمول شراء السيارات، ووزارة التجارة التي تمنح إجازة الاستيراد، والطرق والجسور التي يفترض أن توسع الشوارع، لاستيعاب هذا العدد الكبير من السيارات".
وقال جميل، "تفوقنا على كل دول الجوار في المساحات المخصصة لكل كيلومتر من حيث عدد المركبات الآلية، ولذلك نحتاج إلى إنشاء مواقف للسيارات وتوسيع الشوارع الحالية وتفعيل النقل المشترك، وأن تحد دائرة المرور من دخول أعداد كبيرة من السيارات إلى العاصمة".
ولفت إلى أن "الوضع البيئي أصبح في خطر، ونحن وقعنا على اتفاق نادي باريس للتلوث للتخلص من الغازات، ولذلك يجب أن نعمل وفق المعايير الدولية في هذا الاتجاه".
وكان الرئيس العراقي برهم صالح وقع في يناير (كانون الثاني) الماضي على انضمام العراق إلى اتفاق باريس للمناخ الذي أُعلن عام 2015 بهدف التقليل من الانبعاثات حول العالم.
ويتضمن الاتفاق توفير مزيد من الموارد المالية للحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وتطوير القدرة على التكيف مع التغير المناخي.