المحتجون العراقيون يتحولون إلى أعضاء في البرلمان

آخر تحديث 2021-11-11 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

في أكتوبر (تشرين الأول)، أجرى العراق انتخاباته البرلمانية الخامسة منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وقد حصلت الانتخابات في لحظة إحباط وغضب عميقين على العملية السياسية. فرفض العديد من العراقيين في جميع أنحاء البلاد التصويت انطلاقاً من قناعتهم بأن الانتخابات لم تعمق الديمقراطية لا بل عززت النظام السياسي الفاسد والمنفلت من عقال المساءلة الذي ساد منذ الإطاحة بصدام حسين.

كما كان متوقعاً، كانت نسبة المشاركة في التصويت هي الأدنى في تاريخ العراق الحديث، بمعدل رسمي بلغ 36 في المئة. وفي الواقع يعتقد العديد من المحللين أن الرقم الحقيقي أقل بكثير. علماً أن المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، استثمر ملايين الدولارات في محاولة تعزيز صدقية الانتخابات والثقة فيها. وكانت عملية الاقتراع جرت لأول مرة في عام 2005. وكذلك سعت المؤسسات والقادة الدينيون مثل آية الله العظمى علي السيستاني إلى حمل العراقيين على التصويت. على الرغم من تلك الجهود، بقي العديد من العراقيين محبطين تماماً وغير مهتمين بالخيارات الانتخابية المعروضة عليهم.

في المقابل، تبين أن تلك الانتخابات قد وفرت بعض أسباب التفاؤل. إذ فاز عدد قليل من الأحزاب والشخصيات السياسية المرتبطة بالاحتجاجات الشعبية الضخمة التي جرت في عام 2019، بمقاعد في البرلمان الجديد. وهم يظهرون عدم ثقتهم بالنظام السياسي العراقي ونفاد صبرهم ويسعون إلى الحد من الفساد المتجذر الذي أوجد نخبة حاكمة ضيقة. وعلى الرغم من أن هذا النظام قد أثبت مرونته وصموده في مواجهة جميع التحديات، لكن التحالف الذي أينع بين الجماعات السياسية ذات العقلية الإصلاحية يحمل على الأقل احتمالية حدوث تغيير تدريجي في العراق.

قبضة الدولة الحديدية

جاءت انتخابات هذا العام بعد فترة من الاضطرابات في العراق. في أعقاب انتخابات 2018، نزل كثير من العراقيين إلى الشوارع، مقتنعين بأن عملية التصويت شابها التزوير. واندلعت التظاهرات في ذلك العام في البصرة، التي عانت من انقطاع الكهرباء والمياه في أشهر الصيف الحارقة، ودعا المتظاهرون إلى تحسين الخدمات وأدانوا الطبقة السياسية الفاسدة. رداً على ذلك، قمعت الدولة المتظاهرين بعنف، دلالة على ما ينتظرهم في المستقبل.

وبالتالي، فقدت الحكومة العراقية ثقة معظم سكان البلاد. والجدير بالذكر، أن ما يقرب من ثلثي العراقيين تقل أعمارهم عن 25 عاماً. في السنوات الأخيرة، وفي مواجهة أزمات اقتصادية مرتبطة في المقام الأول بتقلبات أسعار النفط (الذي يمثل أكثر من 90 في المئة من إيرادات الدولة)، واجهت الحكومة صعوبات في توفير فرص العمل وتقديم الخدمات الأساسية لهذا العدد المتزايد من السكان. وبدلاً من ذلك، استخدمت أحزاب المؤسسة الحاكمة وصولها إلى المناصب الحكومية للاستيلاء على موارد خزائن الدولة وتطوير شبكات المحسوبية الخاصة بها والمحافظة عليها، بطريقة لا تلبي إلا احتياجات شريحة ضيقة وآخذة في الانحسار من المجتمع فحسب.

الحكومة العراقية فقدت ثقة معظم البلاد

وهكذا، تفجرت خيبة الأمل منوضع هذا الفساد الذي يحظى بقبول سياسي في عام 2019 عندما نزل الشباب العراقي إلى ساحة التحرير في بغداد وغيرها من الساحات في الجنوب للاحتجاج مرة أخرى على فشل الحكم. وامتدت تلك التظاهرات، المعروفة باسم انتفاضة أكتوبر، إلى المدن في جميع أنحاء البلاد وشكلت تحدياً كبيراً ليس لحكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي فحسب، بل أيضاً للنظام السياسي الذي ظهر في أعقاب غزو عام 2003، وهو نظام قائم على التعاون والمنافسة على نحو متزامن بين الأحزاب السياسية العرقية الطائفية (بما في ذلك الجماعات والأحزاب الشيعية والسنية والكردية التي تمثل الأقليات الصغيرة) في تشكيل الحكومات وإدارة موارد الدولة. ونتيجة لذلك، لم يستهدف المتظاهرون زعيماً أو حزباً معيناً بل وجهوا سهامهم إلى النخبة الحاكمة بأكملها والوضع السياسي الراهن الذي تعززه الانتخابات وتسبغ عليه مشروعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، ردت الدولة على الاحتجاجات في البصرة عام 2018 وانتفاضة أكتوبر 2019 بعنف غير مسبوق. واعتمدت الحكومة، التي اعتبرت الانتفاضة تهديداً وجودياً، على الجماعات المسلحة التي قتلت مئات المتظاهرين وجرحت عشرات الآلاف. في نهاية المطاف، تمكنت السلطات من استعادة الساحات العامة وإعادة المتظاهرين على أعقابهم إلى منازلهم. ومنذ ذلك الحين، سعت الدولة إلى ردع التحركات الجماهيرية جزئياً من خلال السماح للجماعات المسلحة بتنفيذ حملة اغتيالات استهدفت العشرات من النشطاء السياسيين وقادة المجتمع المدني. علماً أن تلك الجماعات المسلحة تتمتع بحصانة كاملة، ولا يعاقب أفرادها على الإطلاق لأنهم يساعدون في حماية النظام من تعاظم الغضب الشعبي. والجدير بالذكر، أن السلطات قامت بسجن وتعذيب وترهيب عدد كبير من النشطاء.

في الواقع، حقق قمع الحركات الاحتجاجية النتيجة المرجوة. ففي حين كان العديد من العراقيين يشككون في عام 2018 في أن أصواتهم يمكن أن تحدث تغييراً، أصبح العديد من العراقيين في عام 2021 يخشون أن الاحتجاجات غير قادرة على إحداث التغيير ولا تدعو إلا إلى الانتقام العنيف.

 من الشوارع إلى البرلمان

عكست المشاركة المتدنية في انتخابات 2021 الشعور بالاستسلام السائد في المجتمع العراقي. إذ فازت الأحزاب ذات القواعد الاجتماعية وشبكات المحسوبية بعدد غير متكافئ من المقاعد، مستفيدة من عدم مبالاة الناخبين. وحققت الكتلة التي يتزعمها الزعيم الشيعي مقتدى الصدر أفضل أداء، حيث رفعت إجمالي مقاعدها البرلمانية من 54 إلى 73 مقعداً، في حين عانى منافسها الرئيس، تحالف "الفتح" من صعوبات، بسبب فشله في المقام الأول في التأقلم مع التغييرات في النظام الانتخابي. في السنوات التي تلت الإطاحة بصدام حسين، صور الصدر نفسه في كثير من الأحيان على أنه دخيل سياسي وخصم للدولة على الرغم من أنه لا يزال أحد كبار سماسرة السلطة في العراق. لكن الانتخابات لم تكن مجرد تكرار لسابقاتها. إذ حققت الأحزاب والقادة السياسيون الجدد المتحدرون من احتجاجات السنوات الأخيرة أداء جيداًعلى نحو مدهش. وفازت حركة "امتداد"، الناشئة من احتلال الساحات في مدينة الناصرية، والتي يقودها منظم الاحتجاج علاء الركابي، بتسعة مقاعد. كما حصل ركابي نفسه على ثالث أكبر عدد من الأصوات لأي مرشح فردي. وكذلك، حققت الجماعات الأخرى المستوحاة من الاحتجاج نجاحاً جيداً، بما في ذلك حركة "إشراق قانون"، التي فازت بستة مقاعد، وحركة "الجيل الجديد" التي نالت تسعة مقاعد. هذه الأخيرة هي حزب ولد من رحم الاحتجاجات في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي، حيث يعاني كثير من الناس من نفس خيبة الأمل التي يعانيها من يعيش في وسط وجنوب العراق. كما ترشح العديد من الناشطين المشاركين في الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد كمستقلين وفازوا بمقاعد.

في الواقع، يمكن لهذه المجموعات والشخصيات معاًتشكيل شريحة يعتد بها في البرلمان الجديد. وتجدر الإشارة إلى أنهم زعموا أنهم لن يشاركوا في المساومة المعتادة التي تأتي بعد الانتخابات حين تتجادل الأحزاب حول الوصول إلى موارد خزائن الدولة، بل سيستخدمون مقاعدهم عوضاًعن ذلك لتشكيل معارضة لإجماع النخبة الحاكمة. هنا يظهر على المحك ما لم يكن موجوداً في الواقع في تاريخ العراق الحديث: معارضة داخل البرلمان. بدلاً من حكومات الإجماع الوطني المعتادة التي تجمع جميع الأطراف، يسعى أولئك النواب إلى تشكيل كتلة كبيرة يمكن أن تمثل العراقيين الذين لا يستفيدون من شبكات المحسوبية القائمة. إذا تمكنوا من البقاء ككتلة متكاملة على مدى السنوات الأربع المقبلة، فهميعقدون الآمالعلى الفوز بمزيد من الأصوات وحيازة كتلة معارضة أكبر في الانتخابات المقبلة، ما يطرح إمكانية تحقيق قدر أكبر من المساءلة والإصلاح التدريجي المقبل من داخل النظام، وهو احتمال تخلى عنه كثير من العراقيين.

أول خطوة على الطريق

على الرغم من ذلك، فإن هذا التحالف بين الأحزاب المرتبطة بالاحتجاجات يواجه معركة شاقة. في الماضي، تعثرت تحديات مماثلة للوضع الراهن في العراق. إذ أخفقت حركة التغيير الكردية "غوران"، التي انبثقت عام 2009 عن الاحتجاجات في مدينة السليمانية في إقليم كردستان المتمتع بالحكم الذاتي، في تغيير النظام السياسي. كما سعت إلى تشكيل معارضة لإسقاط الاحتكار الثنائي للحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. لكن على مر السنين، تمكن الحزبان المهيمنان من تقسيم حركة غوران وإضعافها. كما أدى مقتل زعيمها نوشيروان مصطفى إلى مزيد من الاقتتال الداخلي وكشف عن توترات داخلية عميقة.

بعد مرور عام، فازت حركة "القائمة العراقية"، المؤلفة من مزيج من الأحزاب العلمانية السنية والشيعية، في انتخابات عام 2010 لكنها لم تنجح في الوصول إلى السلطة: ثم تمكن رئيس الوزراء نوري المالكي من إغراء المنشقين لمغادرة المجموعة، مبيناً مرة أخرى الضعف الكبير للتحالفات الواسعة في السياسة العراقية. كما نجح في إنهاء الخلاف بين الأحزاب الشيعية الرئيسة. وهكذا، اجتمعت المؤسسة الحاكمة في مواجهة تهديد "العراقية".

والجدير بالذكر، أن النسخة الأحدث اليوم للمقاومة في وجه النظام السياسي السائد ستواجه تحديات مماثلة. إذ إن تحالفها ليس موحداً إلى حدكبير. وسوف تصطدم بالمصالح الراسخة التي تسعى وراءها طبقة النخبة المتوافقة. في المقابل، سيضع الصدر والمالكي وغيرهما من حاملي لواء ممثلي المؤسسة الحاكمة، عداوتهم جانباً مرة أخرى لتفريق المنافسين واحتوائهم.

ستعمل النخب السياسية على إضعاف صفوف الأحزاب الاحتجاجية وتشتيتها

تخشى الأحزاب الحاكمة القوية طردها من موقعها وفقدان السيطرة على خزائن الدولة. عندما تقوم بتشكيل حكومة جديدة في أعقاب الانتخابات، لن تتفاوض على الوظائف الوزارية فحسب بل أيضاً على المناصب العليا في الخدمة المدنية وهي المناصب التي سمحت لها بجني العوائد والحفاظ على شبكات المحسوبية الخاصة بها. وربما كانت الانقسامات بين الأحزاب المهيمنة، أي بين أولئك المرتبطين بالصدر، والموالين للمالكي و"الفتح"، واضحة في بعض الأحيان وأدت إلى أعمال عنف (بما في ذلك الاعتداء الأخير على منزل رئيس الوزراء)، لكنها ليست عصية على الحل؛ في النهاية، ستوافق النخب السياسية على إضعاف أحزاب الاحتجاج، التي تمثل تهديداً وجودياً جديداً للنظام الحالي.

في الحقيقة، تملك النخب الحاكمة خبرة في تقسيم صفوف الخصوم وتهديد وإسكات مثل هذه التهديدات ونزع فتيلها. وفي المقابل، لا يشكل النواب المرتبطون بالاحتجاجات جزءاً من كتلة متماسكة، وفي كثير من الحالات، هم جدد على السياسة. يجب عليهم تدوير الزوايا وتحقيق المستحيلات من طريق الجمع بين أطراف متناقضة؛ وستكون لديهم قدرة محدودة على إحداث تغيير في البرلمان الذي يميل إلى الوقوف ضدهم، لكن غياب قدرتهم على إحداث التغيير سيؤثر عليهم في الدورة الانتخابية المقبلة. في بعض الأحيان، قد يتعرضون أيضاً لخطر الانقسام، نظراً لأنهم لا يمثلون كياناً واحداً بل الكثير من الحركات الصغيرة. وقد يفقدون الثقة التي منحها إياها الكثير من العراقيين اليائسين. في أفضل السيناريوهات، سوف يبقى أولئك النواب في البرلمان مجموعة متماسكة، مع الحفاظ على العلاقات مع المجتمع المدني والحركات الاحتجاجية وبناء العلاقات مع الإصلاحيين داخل الحكومة العراقية، في عملية تعزيز أواصر النسيج الحيوي للإصلاح.

وعلى الرغم من ذلك، فإن فرص نجاحهم قليلة. وبينما يحاول النواب البقاء في برلمان عدواني، ستستمر الدولة في استهداف نشطاء المجتمع المدني وتقييد الحريات الأساسية للتعبئة السياسية والتعبير. كما سيتواصل فشل الحكومة في توفير الخدمات الأساسية والتوظيف لعدد متزايد من السكان. لكن إخفاقاتها لن تحمل على دعم النواب المرتبطينبالاحتجاج وترجح كفتهم. في الواقع، ينظر بعض العراقيين إلى أحزاب الاحتجاج بأمل في الإصلاح التدريجي، لكن النظام السياسي القادر على الصمود وغير الخاضع للمساءلة سيسعى جاهداً لضمان استمرار الوضع الراهن. إذا لم يرالعراقيون المحبطون أي تحسن في حياتهم خلال أربع سنوات، فلن يلجأوا على الأرجح إلى الأحزاب التي كانوا يأملون في أن تبشرباقتراب أوقات أفضل.

ريناد منصور زميل باحث ومدير مبادرة العراق في تشاتام هاوس. وهو مؤلف مشارك في كتاب "ذات مرة في العراق".

مترجم من فورين أفيرز، تشرين الثاني (نوفمبر) 2021