منذ القرن التاسع عشر ومع اتصال العرب والمسلمين بثقافات غير ثقافتهم، بدأ تبلور سؤال الهوية الذي بقي سؤالًا مركزيًّا لم تتجاوزه مختلف الحركات الاجتماعية والتغيرات السياسية، ولم تدع الأصوليات وسيلة إلا واستعملتها لمقاومة الثقافة الوافدة من الغرب، لكنها أصيبت بالوقت ذاته بما يصطلح عليه سيجموند فرويد "التوحد بالمعتدي"، وهو ميكانيزم دفاعي نفسي يتقمّص فيه الشخص سلوكيات المعتدي ويمتصها ويمارسها، وبعيدًا عن فرويد، استعمل وبكثافة في الدراسات النفسية مفهوم التلوّث النفسي الذي يشير إلى اختلال في البيئة النفسية للإنسان، ومظاهر هذا الاختلال هي تبني الفرد قيمًا ثقافية وافدة من ثقافات أخرى، ومن مظاهره أيضًا؛ نقد الثقافة السائدة والاستياء منها والتنكر لها، والفرد يعد ملوثًا نفسيًا إذا تبنى قيمًا وافدة وعبّر عن سخطه واستيائه من ثقافة جماعته.
الذين يبحثون عن مظاهر التلوث النفسي سيجدون أن مدعي مقاومته هم ليسوا أقل تلوثًا نفسيًا من غيرهم
إن هذا المفهوم بحمولته القيمية السالبة التي يدل عليها اصطلاح تلوث مفهوم سلطوي تسلطي يخدم السلط القائمة والمهيمنة على المجال العام، ويدعها ساكنة مستقرة هادئة لا يدغدغها النقد ولا يستفزها السخط والاستياء، لذا وجد مناخًا ملائمًا في المجتمعات "الإسلامية"، لكن رغم حمولته السالبة هذه، ورغم كونه استُعمل بصفته سلاحًا ضد الناقدين للقيم والمعايير الثقافية السائدة والساخطين عليها، إلا أن تفحّص هذا المفهوم بدقة يجعل منه سلاحًا يستهدف مستعمليه أكثر من الذين يراد وصمهم به، فهو يستعمل هنا للإشارة إلى هيمنة قيم ومعايير غربية على تفكير وسلوك الأفراد، وعلى ذلك تنطبق دلالته على الجميع بما فيهم وكلاء الله في الأرض، فهم واقعون تحت تأثير "العلمنة والتغرب اللاواعي" بحسب اصطلاح داريوش شيغان الذي أراد به استبيان النحو الذي يتم فيه تقييم حقانية الدين استنادًا إلى مواءمته لقيم الحداثة وعدم تعارضه معها، إذ يقول في كتابه الأشهر "هوية بأربعين وجهًا"، إنه "عندما نقول إن الدين لا يتعارض مع العلم أو مع الديمقراطية، فهذا معناه أن الدين أصبح يستمد مشروعيته من هذا الانسجام مع الحضارة الكونية وليس من الإيمان بصدقه بالغيب، كما ظلّ على الدوام في تاريخ هذه المجتمعات قبل الصدمة مع الحضارة الحديثة". لذا، فالذين يبحثون عن مظاهر التلوث النفسي سيجدون أن مدعي مقاومته هم ليسوا أقل تلوثًا نفسيًا من غيرهم.
اقرأ/ي أيضًا: عن الاستعمار والاستقلال.. محاولة لفكّ الالتباس
والسؤال الذي يتبلور بناءً على ذلك؛ هل يقتل ويقاتل الإسلام السياسي - بصرف النظر عن المذهب أو الجماعة أو الحزب أو الميليشيا - من أجل ابتعاث روح الاستقلال عن العالم بصفة إسهامية؟ أي أنه بوصفه منظومة ثقافية تعتزم استدعاء ما في تراثها من الإسهامات التي تجعل منها ثقافة موازية أو منافسة للغرب أم أنه - الإسلام السياسي - يقتلنا يوميًا لأجل الهيمنة والحكم وإبقاء التغرب اللاواعي والتظاهر بقتل مظاهر التغرب في العلن فقط؟ ربما يتمثّل الإسلام السياسي حاليًا على شكل جماعات عصبوية سياسية أو مسلحة مما يجعل تساؤلًا كهذا موضع سخرية وتندّر، وهذا الأمر بات معروفًا جدًا، لكن رغم فقدان هذه الجماعات مشروعية التمثيل للإسلام في المجتمع - في العراق على الأقل - إلا أن خطابها يمتلك رصيدًا من التأثير لا يمكن تجاهله، فالحنين والتوق إلى حكم (إسلامي) لم ينزل إلى الصفر، إذ يؤكد ناصيف نصار في كتابه "منطق السلطة ـ ص145"، أن "شكل الدولة الدينية، خلافًا لما يظن بعض أصحاب النظرية الوضعانية، لا يزال له حضور وتأثير في المتخيل السياسي للبشرية بوجه عام، وفي بعض الدول في آسيا وفي أوروبا الشرقية وفي أفريقيا بوجه خاص. فهو يظهر على المسرح السياسي، هنا أو هناك، ظهور المثال، أو ظهور المكبوت".
وعليه، تصبح مساءلة الإسلام السياسي أمرًا مشروعًا بصرف النظر عن ممثليه، إذ هو لم ينتج بعد منظومة تتعاطى مع التغرب والعلمنة، ولا التلوث النفسي سوى بالعداء والتكفير وتخويف المجتمع منها، وهذا ليس مطلقًا قطعًا فثمة مشاريع إسلامية واعدة في هذا الصدد، إلا أن القراءة الرسمية السائدة صدّتها عن مسعاها، فلم تنل حظها من التأثير في بناء الواقع، وهذه السائدة التي اتخذت موقف العداء مصابة بالتلوث النفسي من جهة أنها تتعاطى مع كل المفاهيم والمنتجات التي ينسبونها إلى الغرب من حقوق الإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية والتكنولوجيا ومؤسسات السياسة والتربية والتعليم؛ فضلاً عن أنها صنعت المناخ الملائم للتلوث النفسي أيضًا، إذ أنها في الوقت الذي طوّر الغرب ما أثمر هيمنته على الحضارة اكتفت بالفتاوى التي بدورها تخلّفت عن تنظيم العلاقة مع الغرب ما أسهم في سيادة الأنومي أو اللامعيارية بتعبير إميل دوركهايم واغترابًا مركبًا نفسيًا واجتماعيًا، فضلًا عن الولاء المشتت والتناشز المعرفي والهوياتي في الآن نفسه.
ولا بدّ من الإشارة إلى أننا ننسب المفاهيم والمنتجات إلى الغرب بتحفظ شديد أو بعبارة أوضح؛ أننا ننقل وجهة نظر الإسلام السياسي فحسب، فلا نجد أن هذه المنتجات غربية بقدر تراكمات حضارية إنسانية يتشاركها الجميع -عدا من يرفض- في بنائها وتطويرها. وعلى ذلك فلا مجال للحديث عن تلوث نفسي ما دام التغرب اللاواعي هيمن على كل شيء حتى على الإسلام السياسي الذي يدّعي وقوفه في خط الصد الأول لمشاريع الغرب، فهذا الادعاء لا يمتلك مشروعية ما لم يتمخّض عن استقلال فكري واقتصادي وثقافي يوازي هيمنة الغرب إذا بقي مصرًّا على عدائه له، أو ينافسه إذا اتخذ خيار التعايش والاعتراف، أما إذا بقي هؤلاء المدّعين للإسلام يعادون في الغرب اسمه فقط، ويقاتلون بأسلحته وبنفس التكنولوجيا التي تصنع أسلحته ويفكرون بنفس منطقه ويتباهون بمنظومتهم الفكرية استنادًا إلى انسجامها مع المعايير الغربية دون أي إسهام خاص بهم في النماذج الفكرية الكبرى فهذا ليس من المقاومة بشيء ولا علاقة له بالاستقلال إطلاقًا.
اقرأ/ي أيضًا:
محنة التنظيمات الإسلامية (1 ـ 2)
محنة التنظيمات الإسلامية (2-2)