من المفارقات على المستوى الشخصي؛ أنه في الوقت الذي كان يهاجمني فيه المتحزّبون لإيران داخل العراق، ويتهمونني بشتّى التهم من الخيانة والعمالة، لا لشيء إلا لأنني أؤيد وأناصر مطالب المجتمع المدني العراقي، ومطالب الحراك الاحتجاجي الشعبي وآخرها انتفاضة تشرين، كان القرّاء الإيرانيون يحتفون بكتبي، وتصدر طبعة ثالثة من النسخة الفارسية من روايتي "فرانكشتاين في بغداد" وتغدو من الأعلى مبيعًا في إيران في 2018، وتصدر طبعة أخرى غير مرخّصة، بترجمة جديدة، بالإضافة إلى طبعة جديدة من الترجمة الفارسية لروايتي "باب الطباشير" بترجمة الشاعرة الإيرانية أمل نبهاني، ويناقش طلبة إيرانيون رسائل ماجستير كتبت عن رواياتي وأعمالي، ويترجم مثقفون نصوصًا لي ينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبعض هذه المقاطع الشعرية غدت من الأكثر رواجًا على "تويتر" بين المغرّدين الإيرانيين في بعض الفترات. هذا بالإضافة إلى التواصل الدائم عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع قرّاء وطلبة وباحثين إيرانيين.
يحاول المتحزّبون العراقيون لإيران بشتّى الوسائل اختصار إيران على مقاس الحرس الثوري الإيراني
كانت من أجمل التجارب اللقاء المزدوج الذي حصل لي والروائي الإيراني حميد زيراتي مع الجمهور الإيطالي في بهو دير قديم في باليرمو، عاصمة صقلية، حيث روينا تجاربنا حينما كنّا أطفالًا، على طرفي جبهة الحرب العراقية الإيرانية، وكيف كنّا ننظر إلى هذه الحرب البشعة وآثارها على المجتمع من حولنا.
اقرأ/ي أيضًا: الواقع العراقي وشروطه المُعَقّدَة
يحاول المتحزّبون العراقيون لإيران بشتّى الوسائل، اختصار إيران على مقاس الحرس الثوري الإيراني، وأن لا تكون للعراق علاقة مع إيران إلا من خرم الإبرة الضيّق هذا. وحين لا نعترف بهذه العلاقة المشوّهة بين بلدين جارين، أو نحاول إضاءة نوافذ أخرى للعلاقة الطبيعية المتوقعة، فإننا نتحوّل إلى خونة، وللمفارقة؛ فإننا هنا لسنا خونة لإيران وفكرة إيران التي يتبنونها، وإنما خونة للعراق، العراق الذي يرونه مجرد مسرح لنشاط الحرس الثوري الإيراني، لا العراق الذي نعرفه!
من 2003 إلى اليوم هناك جدار سميك عالٍ بين العراق وإيران، لم يبنه الكارهون لإيران لأسباب قومية أو طائفية، وإنما المتحزّبون لإيران. فلم نشهد غالبًا أسابيع ثقافية مثلاً بين البلدين، أو عروضًا للموسيقى الإيرانية العظيمة على مسارح بغداد، ولا نشاطًا فنيًا سينمائيًا مشتركًا، أو ملتقيات أدبية وفكرية، وسبب قلّة هذه النشاطات الثقافية أن النظام الإيراني لا يرغب بهذا "النوع" من الانفتاح، خارج قناة الحرس الثوري. فالمطلوب من العراق، والشيعة تحديدًا، أن يكونوا جندًا في جيش العقيدة الولائية الإيرانية، وأن يكون الإعلام والثقافة مجرد بروباغندا وترويج للأيديولوجية السياسية الإيرانية، وليس لأنماط ثقافية أخرى غير أيديولوجية بالضرورة، كما هي الفنون والموسيقى.
إن أي مناقشة من هذا النوع يضعها مناصرو إيران في خانة "كراهية إيران"، وهم يعلمون جيدًا أن هذا الاتهام كاذب ويُستعمل للترهيب والتحريض ضد الناقدين للنفوذ الإيراني السلبي في العراق. أما الحقيقة فنحن نحتاج إلى إيران، فهي بلد عظيم وكبير ومتنوّع وعريق، ولا يوجد مقطع من التاريخ، منذ اكتشاف النار حتى اليوم، لا توجد فيه علاقة ما بين العراق وإيران. إنها علاقة حتمية وقدرية لا يمكن الفكاك منها، ولا ضرورة للفكاك منها، والنقاش غالبًا لا يتعلّق بقدرية هذه العلاقة وإنما نوعها.
إن الترويج للكراهيات والعنصريات فعل منحطّ، ولا يوجد شعب أو بلد محترم ومتحضّر يتعامل بكراهية وعنصرية مع جيرانه، لأن هذه الكراهيات سترتدّ إليه مع دام الجوار أزليًا ودائمًا. ولنتذكر ما فعلت الحرب العراقية الإيرانية وخطاب الكراهية "ضد الفرس" الذي روّج له نظام صدّام، هو لم يفعل في النهاية شيئًا سوى أن زاد من تعاطف الناس مع إيران والإيرانيين.
ولكن، من كون إيران هدفًا لخطاب كراهية صدّامي في الثمانينيات، إلى انفجار غضب الناس في شوارع البصرة ضد إيران وحرق قنصليتها في سبتمبر 2018 مسافة طويلة متعرّجة، لم تحسن إيران رصد تفاصيلها. ثم لم تستفد من درس البصرة 2018 شيئًا، وتكرر الانفجار في وجه إيران في تشرين 2019، ولا يبدو أن إيران ومحازبيها وأنصارها قد تعلموا شيئًا حتى الآن.
إن التداخل الثقافي والديني والطائفي والسياسي بين البلدان المتجاورة أمرٌ طبيعي، إن جرى على وفق قاعدة احترام السيادة وحسن الجوار، كما أن أي مناصر للحرية سيحترم حقّ المواطن في حرية العقيدة والولاء الديني، ومن ذلك حقّ الفرد في اتباع عقيدة ولاية الفقيه، فهو، ضمن هذه الحدود، يشبه اعتقاد أو إيمان أفراد آخرين بعقائد أو أفكار سياسية أخرى، ولا أعتقد أن من أحرق القنصلية الايرانية في البصرة 2018 أو في كربلاء 2019 غاضب لهذه التفصيلة، وإنما لتحوّل هذا الاتباع العقائدي إلى معول لهدم أركان الدولة العراقية، وإضعاف بنيانها القانوني والآمني، واستلاب قرار الدولة السياسي لصالح إيران، وتحكّم الجماعات المؤمنة بهذه العقيدة بالاقتصاد وعالم المال والأعمال بالترهيب والقتل والخطف.
لقد انتفض الناس بسبب تحوّل أفراد عراقيين موالين لإيران إلى قوّة احتلال إيراني من الباطن، بكل ما تعنيه مفردة الاحتلال من قهر وتذويب لشخصية البلد وقمع للمعارضين المقاومين.
يحتاج العراق إلى تقاليد الدولة الموروثة في إيران منذ قرون وإلى نقاشات اللاهوت في حوزاتها لا إلى إيران الراعية لـ"الصكّاكة والقتلة"
إننا نحتاج إلى إيران. نحتاج إلى ثقافتها الغنية، وإلى تقاليد الدولة الموروثة فيها من قرون، وإلى نقاشات اللاهوت والفقه والعرفان العميقة في حوزاتها، إلى الموسيقى ذات النسغ الصوفي العميق، وإلى لمسات البراعة العالمية في إنتاجها السينمائي والدرامي. نحتاج علاقات اقتصادية غنية ومتنوعة، وإلى حريّة حقيقية في الحوار بين مواطني ونخب البلدين يقرأون على ضوئها بشكل علمي عميق ذلك التداخل والتشابك التاريخي "القدري" بين البلدين، وكيف يمكن أن يتحوّل إلى عنصر قوّة ونماء لهما.
نحتاج هذه النسخة من إيران، لا إيران الراعية للصكّاكة والقتلة.
اقرأ/ي أيضًا:
نظرة إيران إلى احتجاجات تشرين.. عداء لشيعة العراق
عن "محللنا" البوليسي الجديد