يمكن أن نتكلم عن تفشي حالة السلطوية في المجتمع العراقي من دون أن يرمش لنا جفن. فنحن نمارسها في البيت، والشارع، والمحافل العامة، وتشتد وتيرتها في الاحتجاجات السياسية الصاخبة! حيث تتصاعد حمّى العاطفة الثورية عند فئات عراقية ليست قليلة. وأذكر في هذا الصدد بعض الأصوات النشاز التي كانت تهاجمنا بحجة ولاءها لتشرين، وبحجة ثانية من أننا ضد تشرين، لماذا؟ لأننا، باعتبارنا مواطنين مهتمين بالديمقراطية، طالبنا، بعد نهاية الاحتجاج الميداني والاعتصامات، بحوار ديمقراطي بين المحتجين أنفسهم، باعتباره خطوة أولية لمشروع مستقبلي أوسع يضم كافة المحتجين في إطار تنظيمي واحد. لكن خابت كل مساعينا في الفشل نتيجة للإرث السلطوي الثقيل الذي كنّا نحمل تركة ضخمة منه في لاوعينا.
يمارس العراقيون العمل الديمقراطي بنكهة سلطوية فاضحة
من المؤكد يصعب ضبط إيقاع الحالة الديمقراطية في زمن الفعل الاحتجاجي. لكن في العراق تغدو السلطوية أحد مكونات الشخصية العراقية. ذلك أن الأمر لا يتعلق بـ "لحظات ثورية" يغلب عليها طابع الحماس العاطفي، بقدر ما هي إرث ثقافي في مجتمع لم يتصالح مع فكرة الديمقراطية. فقد تعاقبت الدكتاتوريات على الدولة العراقية الحديثة حتى أمست جزءًا من ذاكرتنا المُتعَبَة. فمن هنا لا يستطيع الفرد العراقي التفكير خارج دائرة الجماعة، سواء كانت هذه الجماعة قبيلة، أو مذهب ديني، أو أيدلوجية دنيوية كانت أم دينية.
اقرأ/ي أيضًا: ثقافة القبيلة وظاهرة الغلو في العراق
وإذا اقتربنا للسياسة فسينطوي الأمر على كوميديا سوداء توضح لنا كيفية تعاطي العراقيين مع السياسية ونزوعهم القبلي الواضح تجاه المواقف السياسية. وفي هذه الكوميديا يصعب عليك التفريق بين الفاعلين السياسيين على أساس توجهاتهم الأيدلوجية، إذ كلّهم في التخندق سواء.
نحن العراقيين، عمومًا، نمارس العمل الديمقراطي بنكهة سلطوية فاضحة؛ حيث لا زال عموم العراقيين ينظرون إلى السلطة السياسية بشخص رئيس السلطة التنفيذية، وعادة ما تنحصر مناشدتهم حول هذا الشخص دون غيره. أنهم واقعون تحت تأثير اللا وعي الجمعي المُثقَل بالسلطوية. يبدو أن الكثير من هذه الفئات الاجتماعية تبحث عن "قائد"، يترجم، ويتناغم مع الإمكانيات السلطوية الخفية حينًا، والمعبرة عن نفسها بشكل فاضح حينًا آخر.
ولو قُدِّر لهذا اللاوعي الهائل أن ينفتح على مصراعيه لولّينا منه هربًا وملئنا منه رعبًا. سنكتشف طبيعة الأحلام التي تراود الجيل الذي نشأ تحت ظل الاستبداد على الأقل، وعن الجاذبية التي يتمتع بها مفهوم السلطوية عند عموم العراقيين. ولكي نفهم بالذات لماذا تمر القوى السياسية الخاسرة بهستيريا جماعية جعلت من نفسها مادة خصبة للتهكم والسخرية من قبل الرأي العام. هل حقًا أنها حزينة على "الخيانة" الديمقراطية التي تعرَّضت لها، أم أنها، وبدافع سلطوي، لا تعترف بالخسائر على الطريقة الديمقراطية؟ أظنهم لا يحترمون أي قيمة نابعة من الديمقراطية؛ فكل ما في الأمر يعبر الوضع السياسي عن صراع مرير بين السلطوية والديمقراطية، فتحاول هذه القوى الخاسرة الانتصار لذاكرتها الأم: السلطوية.
يقول أحد الكتّاب، مستفيدًا من دراسات إريك فروم، إنّ الشخصية السلطوية "شخصية تتميز بالطاعة العمياء والاعتماد الكلي على زعيم قوي أو شخصية ذو سلطة أبوية، ويكون هذا مصحوبا بتمييز استبدادي ضد الآخرين وخاصة أولئك الذين هم أدنى مرتبة. كما تعرف الشخصية السلطوية ثلاث سمات رئيسية هي؛ احترام واتباع للأوامر بحذافيرها، التزام صارم بالأعراف، عدوانية اتجاه الأفراد من خارج الجماعة".
وما أكثر الشواهد الغزيرة على ذلك النزوع نحو السلطوية. لكن حتى في هذه السلطوية لم يصل المجتمع العراقي لبروز قادة سياسيين يمكنهم أن يحدثوا فارقًا لمجتمعاتهم على صعيد السياسة والاقتصاد كروسيا والصين مثلاً. وأخشى أن معجم المصطلحات الحديثة لا يسعفنا في تحليل الواقع العراقي. غير أن السلطوية والاستبداد اتضح مدلولهما الاجتماعي والسياسي بشكل لافت، وتبيّن لنا أنّ التنديد السابق بالاستبداد أو السلطوية كانت تقتضيه طبيعة المرحلة! أي أنه كان تكتيكًا وليس استراتيجية على الإطلاق. وهذا ما يجعلنا نتكلم عن السلطوية دون أن يرمش لنا جفن حتى لو كانت في المعجم الحديث؛ فالصراع الذي يحدث الآن هو صراع محتدم بين جيل السلطوية وجيل الديمقراطية. لمن الغَلَبَة يا ترى؟
اقرأ/ي أيضًا:
دولة العشائر.. بين فقدان الشرعية واستثمار الهوية
معسكر القبيلة